الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 23 / نوفمبر 23:02

عطر الورد/ بقلم: الكاتبة جميلة شحادة

جميلة شحادة
نُشر: 11/07/20 14:10

ابتعدت ابتسامتُها كثيرا عن شفتيها؛ تلك الابتسامة التي ارتسمت على محياها كل الوقت حتى بعد ان كانت تخلد الى النوم. وها هي منذ شهرين مضيا اختفت اشراقة بسمتها، وحلَّت مكانها أَمارات حزن وتيه غزيا قسمات وجهها. أصبحت تقضي جلَّ ساعات يومها تغسل بدموعها الملح عن الحدقات ظانة انها بذلك ستبرِّد شغاف قلبها من حر اللوعة؛ لوعة فقدان وحيدها.
بعمر الورد رحل وردُ ابن الثالثة عشر ربيعا عنها، ابتلعه البحر في يومٍ ربيعي أضاءت شمسه سماء حيفا، وغمزت بعينها لوالد ورد ودَعته ليستمتع بدفئها على شاطئ البحر برفقة افراد عائلته وأصدقائه.

يقولون ان البحر غدّار، وفي ذلك بعض من التجني. لماذا لا ببحث الأفراد عن الجاني الحقيقي الذي يدفع بالبحر لأن يبتلع الورود ويُغرِق المراكب؟ أليست الريح هي التي تقرِصه من بطنه ومن متنه فترغمه على الكفِّ عن سكونه فيثور؟! ألا يُحتمل ان تكون الورود غير معتادة بعدُ على سحب الاكسجين من رئتيْ البحر فيغضب لعجزه عن مساعدتها فيضمها الى صدره؟! ألا يحتمل أن تكون ثقة المراكب الزائدة بثباتها قد استفزت غرور البحر، فصفعها على مؤخرتها ليلقنها درسا بالتواضع؟!

مضى شهران وأم ورد متغيّبة عن عملها في روضة الأطفال. هي بالكاد تمد يدها الى طبق الطعام بضغط من زوجها لتتناول منه لقمة واحدة او اثنتين تضمن لها البقاء على قيد الحياة، ولم ينجح زوجها ووالديها أو غيرهم بأن يخرجوها من حالة الكآبة والعودة الى حياتها العملية، رغم كل ما وفروه لها من دعم وتشجيع. ومثلما تغيبت ام ورد عن عملها في الخارج، تغيبت عنه في المنزل أيضا، وأوكلت مهمة القيام بالأعمال المنزلية الى عاملة تأتيها ثلاث مرات في الأسبوع؛ تدخل المطبخ والغرف بما فيها غرفة نوم ام ورد، وكأنها تدخل غرف بيتها لتنظفها وتعيد الترتيب فيها. كانت هذه العاملة سعيدة لأنها استطاعت ان تنال ثقة واستحسان ام ورد بعملها؛ فهي نشيطة، تتقن عملها والأهم أنها لا تجيد الثرثرة؛ الى ان دخلت ذات يوم الى غرفة نوم ام ورد وراحت تمسح الغبار عن الأثاث والأسطح، وبحركة من يد العاملة ناتجة عن سرعة بالعمل وقلة بالانتباه، سقطت إحدى زجاجات العطر على الأرض. تكسرت، أحدثت صوتا، فأسرعت ام ورد تفحص ما حدث. أسفت أم ورد عندما رأت زجاجة عطرها من النوع الفرنسي الفاخر غالية الثمن قد تحطمت على ارض الغرفة، كانت ام ورد تفاخر امام زميلاتها بعطرها المفضل وبأنه فرنسي من شركة شانيل، تحضره معها من السوق الحرة بعد عودتها كل مرة من سفراتها الى خارج البلاد. لم توبخ ام ورد العاملة على قلة انتباها، ولماذا توبخها؟ فكل الخسارات بعد خسارتها لابنها لا تساوي شيئا.
الغريب بالأمر، ان أم ورد ظلّت لأسبوع تتنشق رائحة العطر الذي انسكب على ارض غرفتها، وتنتعش كلما دخلتها. وفي اليوم السابع، هاتفت محامي العائلة، ليتخذ الإجراءات القانونية، ويسجل الجمعية التي ستترأسها باسم، عطر الورد.

* جميلة شحادة، كاتبة وقاصة من الناصرة
11.7.2020

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com

مقالات متعلقة