نجح نتنياهو في فترة حكمه الممتدة منذ العام 2009، بإلغاء موازين قوى كانت سائدة في المجتمع والمنظومة السياسية في إسرائيل، فقد قضى تقريبًا على ما يسمى بـ"معسكر اليسار"، وجر المجتمع إلى حالة إجماع أقرب إلى مفاهيم وقيم اليمين فيما يتعلق بهوية الدولة ووظائفها، ودفع إلى تراجع قيم الديمقراطيّة الإجرائيّة الشكليّة، وأدخل اليمين الاستيطاني إلى قلب صناعة القرار، وضرب مكانة جهاز القضاء، وزاد من تطرف المجتمع وعسكرته.
الفئات الاجتماعية والسياسية المتضررة من تغيير موازين القوى هذا، فشلت مرارًا في صدّ نتنياهو وإسقاطه، أو حتى تخفيف حدة التغيرات البنيوية التي أنتجها. حالة الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، صعّبت معًا حدوث أي تغيير جدي في الحالة السياسية في إسرائيل، إلى أن جاءت أزمة جائحة كورونا الاقتصادية والصحية، وبدأت تخلخل أسس السيطرة المتينة التي ارتكز عليها حكم نتنياهو، بل هيمنة نتنياهو ومشروعه، خاصة عن طريق حركة الاحتجاج الحالية.
ما نشهده من احتجاج سياسي واقتصادي في الأسابيع الأخيرة هو نضوج لعوامل متراكمة كانت باهتة وضعيفة لعدة سنوات، فالعديد من النخب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي كاد حكم نتنياهو أن يلغي تأثيرها وحضورها السياسي، باتت ترى بأن الظروف سانحة لتغيير نتنياهو وعودتها لمراكز التأثير وصناعة القرار، أو على الأقل ترى إمكانية واقعية لإعادة موضعة نقاط توازن جديدة لقواعد اللعبة السياسية بين النخب الإسرائيلية، وربما إعادة الاعتبار للصهيونية الكلاسيكية.
مطالب الاحتجاج متنوعة، منها الاقتصادي ومنها السياسي ومنها القضائي ومنها القيمي، ومنها القديم المتعلق بملفّات الفساد ولوائح الاتهام التي تلاحق نتنياهو، ومنها الجديد المتعلق بالحالة الاقتصادية الناتجة عن أزمة كورونا، وتوجيه أصابع الاتهام لنتنياهو بالفشل في إدارة الأزمة في الموجه الثانية. ناهيك عن أن الحكومة الحالية تبدو متخبطة، مترددة وعاجزة عن التعامل مع إسقاطات أزمة كورونا، وخاصة الاقتصادية.
إذًا، هو حراك داخل المجتمع وبين النخب الإسرائيلية، ملامحه وشعاراته واضحة. لم نسمع أو نرى، لغاية الآن، أي خطاب يخرق سقف الإجماع الإسرائيلي التقليدي، ولا جديد حقيقي من حيث المضمون في هذا الاحتجاج سوى حجمه وتوقيته وإصراره.
نعم، قد ينتج هذا الحراك بالتأثير على المشهد السياسي الحزبي في إسرائيل، لكن دون أن يأتي بمفاهيم أو قيم جديدة، أو طرح مراجعة ذاتية نقدية، أو عرض بديل ديمقراطي حقيقي يعيد ترتيب النظام، فعلى سبيل المثال يمكن أن نرى تراجع في مشاركة شرائح اقتصادية معينة، في حال تجاوبت الحكومة مع مطالبها المالية العينية، دون أن يكون حاجة لإعادة صياغة السياسات الاقتصادية. المطلوب فقط ميزانيات وتعويضات، وبأسرع وقت ممكن. ومطالبة البعض بتنحي نتنياهو، دون أن يطرح أو يطلب حتى تغيير سياسات نتنياهو وهيمنة الحزب الحاكم. ناهيك عن أننا لا نسمع أي طرح يتطرق إلى القضايا الجوهرية المتعلقة بمكانة المجتمع العربي وإنهاء الاستعمار.
لا نقلل من أهمية الحراك ولا من رغبتنا بتغيير نتنياهو، لكن نحن كمواطنين عرب أصحاب البلاد، مطالبنا مختلفة، وهي أوسع وأعمق، إذ أن مكانتنا الاقتصادية مشتقة من مكانتنا القومية، وحالتنا الاقتصادية السيئة أصلًا، ازدادت سوءًا بسبب جائحة كورونا لأن الاقتصاد العربي هش وضعيف، ومرتبط بشكل تام بالاقتصاد الإسرائيلي والقطاع العام، ولأن السلطات المحلية العربية، مسلوبة إمكانية تجنيد أموال ذاتية من الضرائب المحلية، بسبب انعدام المناطق الصناعية، وحقوقنا مغيبة بسبب طبيعة النظام وغياب الديمقراطية الحقيقية الجوهرية.
الاحتجاج الحالي يرمي إلى ترميم النظام، وذلك للحفاظ عليه وعلى الأفضليات الممنوحة للمجتمع اليهودي، وللحفاظ أيضًا على التراتبية في المواطنة، حتى لو سعى لتغيير النخب المهيمنة. فهل هذا مقبول علينا؟ وهل هذه أسباب كافية للمشاركة والانضمام؟!
المشاركة في الاحتجاج لها معان كثيرة ولا يمكن اختزالها بمطلب تغيير نتنياهو. ولو فرضنا جدلًا، نجاح نتنياهو وحكومته الحالية بإرضاء الشرائح المتضررة اقتصاديًا، هل سيكون هذا بمثابة تقاطع بين مطالبنا ومطالب تلك الشّرائح؟ وهل سيكون مطلب تغيير نتنياهو بسبب ملفّات الفساد قاسمًا مشتركًا لاحتجاج يهودي عربي؟ وهل الشعارات المتواضعة الخافتة لإنهاء الاحتلال، ستجد لها مكانة ضمن شعارات الاحتجاج؟ أو هل بالإمكان المطالبة بإلغاء "قانون القومية" مثلًا ضمن شعارات الاحتجاج، بينما يصر ما يسمى بـ"يسار الوسط" على تعديل القانون!
هي أسئلة كثيرة لم يجب عليها المجتمع العربي ولا قيادته، والأسوأ أنها لم تُطرح ضمن نقاش المشاركة أو الامتناع، ولا من خلال تقييم جماعي لتجارب الماضي.
المشاركة في الاحتجاج والترويج له دون محاولة الإجابة عن تلك التساؤلات، يقع ضمن قبول قواعد اللعبة وشروطها بل وتكريسها، ولن يؤدي إلى أي تغيير أو تبديل. هكذا كان في حركة الاحتجاج عام 2011، وعندما نظمت لجنة المتابعة مظاهرة احتجاج ضد "قانون القومية" في تل أبيب عام 2018، وهكذا كان في مشاركة قيادات عربية في مظاهرات "يسار الوسط" في السنوات الأخيرة، وهكذا سيكون عندما تشارك دون أن يكون لديك أي إمكانية لوضع شروط أو تغيير قواعد اللعبة، وتكتفي بوجود هامش يسمح لك بطرح الشعارات ضمن سلّة شعارات مطروحة في الاحتجاج. ففي هذه الحالة تقبل بالسقف المشترك، المفروض مسبقًا، لكي تكون جزءًا من اللعبة والخطاب حتى ولو غرّدت خارج السرب، سيُغَضُ الطرف عن شعاراتك "الغريبة" في الاحتجاج، كونها هامشية وغير مؤثرة، ولا تغيّر من مسار وطبيعة الاحتجاج ولا مضمونه، وكون العدد ومجرد المشاركة في هذه الحالة، هو هدف المحتجين.
تضيع الشعارات ضمن الشعارات الموجودة، لكن تبقى الشرعية والقبول في قواعد اللعبة وشروطها، كالإرث الأبرز لمشاركة المواطنين العرب.
في هذا الواقع التي تغيب فيه مطالبنا الجوهرية بسبب انشغالنا بالبحث عن أوسع قاسم مشترك بين المحتجين، يكون البديل احتجاج عربي جلي المطالب والمضامين، وهي بجزئها خاص لنا كمواطنين عرب، مثل تغيير طبيعة النظام الحاكم، والمطالبة بحقوقنا الجماعية، وإلغاء تراتبية المواطنة وإنهاء الاستعمار الصهيوني، وبشقها الآخر عامة، مثل الديمقراطية والمساواة والحرية، فإذا كان هناك فعلًا من يدعم هذه المطالب وهذه الشعارات، فليعلن ذلك ويشارك معنا في احتجاجنا في بلداتنا العربية أو على محاور الطرق الرئيسة المحاذية لها.
* كاتب المقال- د. إمطانس شحادة- التجمع الوطني الديمقراطي- القائمة المشتركة
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com