الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 23 / نوفمبر 00:02

العظماء (15)- العمّ هو تشي منّه اللّطيف/ بقلم: علي هيبي

علي هيبي
نُشر: 19/09/20 13:21

تقديم له ما بعده:
عندما أكتب عن أولاء العظماء لا أنظر لزمانهم بل لما فعلوه في تلك البرهة التي تسمّى "حياة" في زمانهم، ولا أبالي لمكانهم بل أبالي لتلك الرّقعة التي تسمّى "وطن" وما قدّموا له من تضحيات، ولا أكترث لانتمائهم القوميّ بل أكترث لتلك الجماعة التي تسمّى "شعب" وما صنعوا لشعوبهم من إنجازات عظيمة، ولا كان يهمّني أديانهم ولأيّ دين ينتمون بل كان يهمّني ذلك المبدأ السّامي الذي دعوْا إليه الناس من أجل إخراجهم من ظلمات القهر إلى نور الحرّيّة ومن أجل إنقاذهم من غياهب الظّلم إلى أنوار العدالة وسموّ الكرامة، ومن تحت مسغبة الجوع الكافر إلى تحصيل لقمة العيش بشرف وعرق وإيمان، ولا كنت آبهُ لمعتقداتهم ولا لآرائهم التي تتجمّع في شيء اسمه "فكر"، بل كنت آبه للتجلّي المنبثق والمنير الذي يجعل الناس ثائرين على الكذب والنّفاق والخيانة والاستغلال والنّهب والهيمنة والاستعباد، ويسيرون في سارية الضّياء حتّى تزول كلّ غمامات الظّلم والاستغلال والاضطهاد، ويسود العالم السّلام والأمان ويحظى الإنسان بحياة كريمة آمنة وينعم بأملاكه العامّة والخاصّة وبحرّيّته الشّخصيّة والوطنيّة التي لا يساويها أيّ عظيم من الأشياء مهما غلا.
عندما أكتب عن أولئك العظماء يكون الزّمان والمكان والقوم والدّين والفكر تفاصيل تكمّل صورة العظمة، لا آبه عندما أكتب عنهم إلّا لعظمتهم التي تجسّدت فعلًا إنسانيًّا على الأرض وثورة عارمة وكفاحًا مجيدًا من أجل الإنسان، لتجعل حياته أسعد وأنبل في كلّ زمان ومكان، ولذلك كان من الممكن أن يثور "جيفارا" في روما القديمة مكان "سبارتاكوس" ويعلّق على عود مشنقة يترنّح، قبل آلاف السّنين، ويقاتل "سبارتاكوس" في منتصف القرن العشرين في غابات بوليفيا وجبال "السّييرا مايسترا" في كوبا ويعلّق أمام فوّهة مسدّس يرتجف، وكان من الممكن أن تكافح "جان دارك" الفرنسيّين في الجزائر في القرن العشرين، وتعود "الجميلة بوحيرد" أدراجها 600 عام إلى الوراء وتكافح ضدّ الإنجليز في القرن الرّابع عشر في شمال فرنسا، ومن الممكن أن يكون "جمال عبد النّاصر" هندوسيًّا مكافحًا في الهند، وَ "المهاتما غاندي" عربيًّا مسلمًا في مصر، ومن الممكن أن يقاوم "مارتن لوثر كينغ" مُلك الأمويّين الظّالم في الشّام وَ "الإمام الحسين" يقاوم التّفرقة العنصريّة الظّالمة في أميركا، ومن الممكن أن يقاتل الأسود "نيلسون مانديلا" في الهند الصّينيّة صامدًا ما صمدت آسيا، مكان "هو تشي منّه"، ويأتي الأصفر "هو تشي منّه" ليسجن ثلاثين عامًا ويبقى صامدًا ما صمدت أفريقيا. فالظّلم هو الظّلم والكفاح هو الكفاح والعظماء هم العظماء، وكلّ في فلك العظَمة يسبحون.
ما قبل الوعي وما بعده:
كنّا في ريعان الصّبا وعزّ الطّيش منغمسين في "لذّة الفتى" ومتعة الجهل الشّبابيّ الجميل، ما بين 1970 – 1975، كنت في سنّ الخامسة عشرة عندما مات "جمال عبد الناصر"، كان اسمه يرنّ رنينًا غريبًا في الآذان والنّفوس، وكنّا نحبّه ولا ندرك لذلك سببًا ولا نعي علمًا ولم ندّعِ معرفة، قد يكون موته أوّل حدث بارز غيّر فيّ شيئًا، وفي الفترة نفسها صرنا نسمع عن حرب فيتنام وعن أسماء تصاحبها وتتردّد معها وتذكر عند ذكرها مثل: "الفيت كونغ" والجنرال "جياب" والقائد "هو تشي منّه" والسّلاح السّوفييتيّ والرّئيس الأميركيّ "جونسون" وخليج الخنازير، وطائرات الميراج والفانتوم والل B52 التي كانت عندما يُسقطها الثّوّار "الفيتكونغ" والمناضلون الفيتناميّون بمدافعهم الرّشّاشة يسقط معها طيّاروها الخمسة فنفرح عاليًا لذلك السّقوط الأميركيّ المدوّي. وتوالت الدّروس الّتي علّمتنا وغيّرت فينا، وصرنا نعي من هذه الحرب التي دارت في الهند الصّينيّة مبكّرًا المعاني الكامنة وراء الحرب في فيتنام بعد ذلك، وصرنا ندرك الفرق بين حرب الظّالم على المظلوم وإرهاصاتها ونعرف أسباب مقاومة المظلوم للظّالم ونجيد فهم الأدوار في الحروب القذرة غير المشروعة التي تبادر لها وتشنّها القوى الاستعماريّة بهدف الهيمنة على الشّعوب لاضطهادها وإذلالها وتسخيرها لخدمتها وحروبها، ومن أجل السّيطرة على المقدّرات والثّروات القوميّة لتلك الشّعوب لتحقيق الأطماع والأرباح المادّيّة، وصرنا ندرك دور المقاومة العادلة والمشروعة مسلّحة وسلميّة في رفض حياة الذّلّ والخنوع لظروف الواقع المرير، والكفاح من أجل صدّ هذه القوى وهيمنتها وسيطرتها ولكبح جماح أطماعها ومن أجل نيل الحرّيّة والاستقلال الوطنيّ والعيش بكرامة إنسانيّة وشموخ قوميّ.
لقد قادني حبّ العظماء وأنا غرّ إلى عالم السّياسة، التي صرت عندما لم أعد غرًّا أفقه فيها وفقًا لقدراتي المتواضعة، أفقه ما الفرق بين الغثّ والسّمين، بين الحقّ والباطل، بين المستغِلّ والمستغَلّ، وأكثر من ذلك أدرك أنواع الصّراعات: القوميّ والطّبقيّ والتّداخل بينهما، والتّفاوت الطّبقيّ وطبيعة الحروب ومسوّغاتها وأسبابها الحقيقيّة وذرائعها الملفّقة والواهية، وصرت أعي من تلك الحروب أهمّيّة السّلام في حياة الشّعوب.
ولكنّ السّلام لا يأتي - كما يبدو - إلّا بعد حروب طويلة وباهظة الثّمن وتكاليف مادّيّة ومعنويّة هائلة، وبعد مقاومة دامية ضدّ الظّلم والاستغلال والاستعمار والهيمنة، مقاومة تقاتل من أجل الحرّيّة والعدالة والحياة الكريمة والاستقلال والسّلام مهما كانت الأثمان باهظة ومهما كانت التّكاليف غالية.
إلى فيتنام في الشّرق الآسيويّ الأقصى:
لم تبدأ الحرب في الهند الصّينيّة منذ سنة 1945، بل كان لتلك الحرب جذور تعود إلى أواسط القرن التّاسع عشر، كانت البلاد كلّها بكافّة أقسامها، "تونكين" في الشّمال، وَ "أنام" في الوسط، وَ "كوشينشينا" في الجنوب، كلّها تشكّل فيتنام اليوم، ومن ثمّ انضمّت "لاوس" وَ "كمبوديا". وكلّ هذه الأقاليم كانت تحت سيطرة الإمبراطوريّة الفرنسيّة الاستعماريّة منذ زمن بعيد، يعود إلى بدايات القرن السّابع عشر، بلا مقاومة منظّمة وفعّالة تذكر حتّى بداية الحرب العالميّة الثّانية، إلّا من بعض الهبّات الوطنيّة والشّعبيّة الجزئيّة والمحدودة التي كانت القوّات الفرنسيّة سريعًا ما تخمدها، ولكنّ حركة المقاومة الفيتناميّة التي شكّلت تمهيدًا للمقاومة الشّيوعيّة التي قادها "هو تشي منّه"، هي تلك الحركة التي قادها المفكّر "فان بوي تشاو" الذي تعاون مع اليابان بهدف كبح الفرنسيّين، ولكنّ فرنسا ضغطت على اليابان، فرحّلته إلى الصّين، وهناك استفاد من تجربة المقاومة الصّينيّة التي قادها الوطنيّ الصّينيّ "سون يات سن" في مدينة شنغهاي، كان "تشاو" يحظى بشعبيّة كزعيم حديث للمقاومة، وسجن ما بين 1914 – 1917 وحكم عليه بالإعدام ومن ثمّ عُدّل الحكم إلى السّجن المؤبّد، وظلّ فيه إلى أن مات سنة 1940، وهي السّنة التي تحتلّ فيها اليابان الهند الصّينيّة، ولكنّ فرنسا تبقى هي الحاكم الفعليّ المؤثّر، قد تكون هذه التّجربة في المقاومة التي قادها "تشاو" هي الأبرز في تاريخ الصّراع الفرنسيّ الفيتناميّ قبل ظهور القائد الماركسيّ اللّينينيّ "هو تشي منّه" وصعوده على مسرح الأحداث سنة 1941، وتأسيس "الفيت مين" التي تعني التّحالف الوطنيّ من أجل استقلال فيتنام، وهذا ينقل المقاومة الفيتناميّة بقيادة الزّعيم "هو تشي منّه" إلى مرحلة جديدة، مرحلة النّضال الشّيوعيّ، التي دحرت الاستعمار الفرنسيّ سنة 1954 وستدحر في المستقبل الاحتلال الأميركيّ الذي غاص في الوحل الفيتناميّ من الرُّكَب حتّى قمّة الرّأس بعد خوضه هذه المأساة في حرب قذرة امتدّت لأكثر من عشرين عامًا.

كيف حدث ذلك:
في ظروف كئيبة وحياة بائسة لكلّ الفيتناميّين وفي العقد الأخير من القرن التّاسع عشر وتحت طائلة الحكم الاستعماريّ الأجنبيّ حيث تسيطر فرنسا منذ زمن بعيد على الهند الصّينيّة بكافّة أقاليمها، وتشدّد قبضتها في القضاء على كلّ إمكانيّة للمقاومة، وتحكم سيطرتها على البلاد والعباد في جنوب شرق آسيا، هناك وسط هذه الظّروف ولد في قرية "هونغ ترو" يوم 19/5/1890 القائد الوطنيّ العظيم "هو تشي منّه"، رائد النّهضة القوميّة في الهند الصّينيّة والرّئيس الأوّل والمؤسّس للدّولة الفيتناميّة الشّماليّة منذ سنة 1945، والذي كان رفاقه ينادونه بِ "العمّ هو اللّطيف" لرقّة معاملته وهدوئه ومحبّته للفقراء. ولد طفلًا متمرّدًا في بيئة فقيرة، كان اسمه عند الولادة "نجوين سينه شونغ" أبوه مدرّس بسيط ومن ثمّ قاضٍ صغير، فصل من عمله، توفّيت أمّه وهو طفل، له أخوان اثنان: مات أحدهما رضيعًا وعمل الآخر عطّارًا، وأخت عملت في مكاتب الجيش الفرنسيّ، ولكنّها استغلّت عملها لتهريب السّلاح للمقاتلين الفيتناميّين ضدّ الفرنسيّين، لقد زرع الأب في أبنائه منذ الصّغر أنّ فرنسا بلد غريب محتلّ "ولا ينبغي أن يكون هنا"! منذ سنّ العاشرة يبدأ بدراسة تعاليم "كونفوشيوس" حكيم الصّين في الاجتماع والأخلاق، على يدي حكيم فيتناميّ اسمه "فيونغ توك" فيلاحظ المعلّم عليه علامات الذّكاء وسلامة التّفكير، في هذه البيئة نما الطّفل المتمرّد، وربّما لذلك فضّل التّعلّم في مدرسة محليّة وليس في مدرسة فرنسيّة، وفي هذه الأثناء تبدأ شخصيّته بالتّبلور والتّكوّن، وينمو حسّه الوطنيّ، فيشارك لأوّل مرّة في مظاهرة ضدّ الضّرائب الثّقيلة التي تفرضها الحكومة الفرنسيّة على الفلّاحين الفيتناميّين، ولأوّل مرّة يعاقب على مشاركته تلك ويطرد من المدرسة، ولا تسعفه كلّ الطّلبات للموافقة على إكمال الدّراسة.
ومرحلة جديدة من السّفر خارج البلاد تبدأ في حياته. كان في سفره شيء قليل من الاحتجاج وشيء كثير من الحاجة، كان لا بدّ من العمل لتحصيل القوت، وللسّفر حاجات ومآرب أخرى، في فرنسا سنة 1911 يعمل طبّاخًا في باخرة كبيرة، وفي أميركا يتابع عمله طبّاخًا وخادمًا في بوسطن ونيو يورك، في بريطانيا يبقى مدّة أطول منذ 1913 حتّى 1919، يعمل نادلًا وغاسل أوانٍ في الفنادق، كان للعمل في الباخرة والفنادق حيث يرتادها كثير من السّيّاح من كافّة الشّعوب أهميّة أخرى مضافة، إذ منها تبدأ علاقاته مع القوميّين الفيتناميّين وتتبلور تدريجيًّا أفكاره السّياسيّة والثّوريّة، في سنة 1917 كان واحدًا ممّن شاركوا في حروب محدودة، قادها المفكّر "تشاو"، كلّ ذلك أغنى تجاربه الكفاحيّة والفكريّة، عاد مرّة أخرى سنة 1919 إلى فرنسا، ومن هناك بدأت رحلته الجدّيّة مع الفكر الشّيوعيّ فاكتملت رؤيته الثّوريّة بعد هذه التّجربة التي امتدّت لخمسين عامًا.
الشّيوعية هي الحلّ والخلاص:
قلت إنّ للسّفر مآرب أخرى، عاد "هو تشي منّه" إلى فرنسا وبتأثير شيوعيّ فرنسيّ اسمه "مارسيل كاتشين" آمن بالشّيوعيّة كطريق وحيد للخلاص الوطنيّ وصار أوّل شيوعيّ فيتناميّ، يسعى لكنس الاستعمار الفرنسيّ عن الهند الصّينيّة، سنة 1920 ينضمّ إلى مجموعة مؤسّسين للحزب الشّيوعيّ الفرنسيّ، لقد أتقن اللّغة الفرنسيّة وصار ممثّلًا للحزب في المؤتمرات الدّوليّة، ومن خلال تلك المؤتمرات صار على علاقات مع بعض زعماء العالم ورؤساء الأحزاب وشخصيّات سياسيّة أخرى، وصار يطلعهم بالرّسائل على معاناة الفيتناميّين وغيرهم من شعوب الهند الصّينيّة وجنوب شرق آسيا تحت نير الاستعمار الفرنسيّ، خاصّة رسالته إلى زعماء العالم وأخرى للرّئيس الأميركيّ "ودرو ويلسون"، ولكنّ الرّسائل تمّ تجاهلها، وقد ألّف كتابًا بهذا السّياق سنة 1925 بعنوان "الاستعمار الفرنسيّ تحت المجهر"، زيادة على كتابة المقالات التي تبيّن جرائم الاستعمار الفرنسيّ ومدى الاستغلال والاضطهاد في جريدة "لومانتييه" الفرنسيّة الشّيوعيّة، والخُطب السّياسيّة الحماسيّة الموجّهة للفيتناميّين كي يواصلوا قتالهم.
في سنة 1923 زار الاتّحاد السّوفييتيّ وشارك بعد سنة واحدة في تشييع جثمان الرّفيق "لينين"، قضى في الاتّحاد السّوفييتيّ حوالي سبع سنوات في الدّراسة، وتخرّج من "الجامعة الشّيوعيّة لكادحي الشّرق"، وقرأ كلّ الفكر الماركسيّ ومؤلّفات "إنجلز" وَ "لينين"، وانخرط في النّشاط السّياسيّ الشّيوعيّ حيث أقام مع مجموعات من الشّباب الفيتناميّ ما سيكون لاحقًا نواة المقاومة الفيتناميّة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ والاحتلال الأميركي فيما بعد، وقد أصبحت هذه النّواة الحزب الشّيوعيّ الفيتناميّ، وأنشأ جريدة "لوباريا" (المنبوذ أو المشرّد بالعربيّة) النّاطقة باسْمه والتي كشفت الاضطهاد والاستغلال الفرنسيّ في فيتنام وسائر الشّعوب المستعمرة، وصار أعضاء الحزب عصب الحركة الوطنيّة وقوى التّحرير لطرد الاستعمار. كان لزامًا على المقاومة الفيتناميّة التي بدأت تتبلور سنة 1941 وبدأ يشتدّ عودها عسكريًّا سنة 1945، أن تقاتل أربعة استعمارات أو احتلالات، منها ما هو فعليّ على الأرض مثل: الفرنسيّ والأميركيّ بعده، ومنها ما هو صوريّ مثل اليابانيّ، موجود على الأرض ولكنّه لا يحكم فعليًّا، ومنها ما هو داعم بالخطط الجهنميّة والأفكار الّتي تحسن إحكام الهيمنة الاستعماريّة، وهو الاستعمار البريطانيّ الذي يدعم الاستعمار الفرنسيّ ليسيطر هنا في الهند الصّينيّة ليدعمه الاستعمار الفرنسيّ ليسيطر هناك في شبه الجزيرة الهنديّة، هكذا يتقاسمان النّفوذ والأدوار على الشّعوب والأوطان، كما تقاسم سايكس وبيكو جانبيْ الطّاولة الاستعماريّة منذ سنة 1916، فالتّفكير الاستعماريّ واحد بغضّ النّظر عن المخالب المنفّذة. الوحش هو الوحش!
المقاومة لا تساوم:
أسّس الزّعيم "هو تشي منّه" سنة 1941 "الفيت مين"، بالعربيّة الرّائعة "التّحالف الوطنيّ"، بدعم من الصّين، بعد دخول اليابان واحتلال فيتنام، صار من اللّازم قتال اليابانيّين أيضًا، لكنّها لم تكن المسيطرة على الحكم بل ظلّ ذلك بيد الفرنسيّين، بعد خسارة اليابان في الحرب الثّانية واستسلامها سنة 1945، دخلت بريطانيا ومنعت إعلان الاستقلال وأيّدت استعادة السّيطرة الفرنسيّة على جنوب فيتنام ووسطه، أميركا التي ظلّت بعيدة عن هذا الصّراع بدأت تقحم نفسها وتعارض استعادة السّيطرة الفرنسيّة، وبعد معارك قاسية وضربات حرب العصابات بقيادة الجنرال "جياب" (1911 – 2013) ونضال مقاوم وطويل للفيتناميّين، خاصّة بعد قيام جبهة نضال معادية للاستعمار الفرنسيّ من "الفيت مين" بقيادة "هو تشي منّه" والمقاومة الصّينيّة بقيادة "ماو تسي تونغ" والباتين في لاوس، تمكّن هذا الحلف الثّلاثيّ من هزيمة فرنسا وإعلان الاستقلال في فيتنام الشّماليّة ولاوس وكمبوديا، بعض القوّات العميلة للاستعمار الفرنسيّ وقوى مؤيّدة للإمبراطور "باو داي" سعت لدفع الفيتناميّين للاقتتال الدّاخليّ، فظلّ الجنوب الفيتناميّ مواليًا للاستعمار في العاصمة "سايغون" واستقلّ الشّمال المدعوم من الصّين بقيادة "هو تشي منّه" في العاصمة "هانوي".
بعد سلسلة من الحروب والصّدامات الدّامية منذ سنة 1945 وحتّى سنة 1954 استطاع الفيتناميّون أن يفرضوا شروطهم، ففي تمرّد الرّيف سنة 1949 ضدّ الفرنسيّين استخدم الفرنسيّون كعادتهم في الحروب جنودًا من مستعمراتهم المترامية: من الجزائر والمغرب وتونس ولاوس وكمبوديا وفيتنام، وكانت حملة الرّأي العامّ لليسار الفرنسيّ والعالميّ ضدّ الحرب التي سمّوها "الحرب القذرة" على أشدّها، حتّى أميركا بدأت تظهر شيئًا فشيئًا فتدعم الجنوب الفيتناميّ لكبح التّمدّد الشيوعيّ، لقد تطوّر التّمرّد الرّيفيّ إلى حرب شاملة بالأسلحة بمساعدة السّلاح السّوفييتيّ والدّعم الصّينيّ استخدم فيها الجنرال "جياب" الكمائن والعصابات والمدافع وإعاقة الإمدادات وإلى جانب ذلك حظيت المقاومة بدعم شعبيّ هائل من قبل جميع الفيتناميّين، وكانت المعركة الفاصلة في "ديان بيان فو" المصيريّة الشّهيرة، حيث دمّر الجنرال "جياب" بقوّاته آخر معاقل القوّات الفرنسيّة بعد حصار دام 60 يومًا، وبالرّغم من أنّ الجيش الفرنسيّ كان مدعومًا من حلف "النّاتو" وبالرّغم من التّضحيات الهائلة التي قدّمها الجيش الفيتناميّ (8000 قتيل و 15000 جريح) استطاع الجنرال "جياب" إحكام قبضته العسكريّة وبخطّة مفصّلة تحت إشراف القائد "هو تشي منّه" استطاع محاصرة المعسكر الفرنسيّ الأخير في "ديان بيان فو" وفيه 15000 من الجنود والضّبّاط الفرنسيّين، وفي يوم 7/7/1954 خرج القائد الفرنسيّ "دو كاستر" رافعًا الرّاية البيضاء معلنًا الاستسلام، بعد مقتل 3300 جنديّ فرنسيّ وفقدان وأسر حوالي 10 آلاف، لم يسلم من المعسكر الفرنسيّ ذي ال15 ألف عسكريّ إلّا 3000، خرجوا أذلّاء فكانت هزيمة مذلّة لفرنسا، إنّها النّهاية الطّبيعيّة لكلّ احتلال واستعمار، وفي محادثة قصيرة بين القائد "دو كاستر" من الموقع وبين قائده "كوني" في القيادة العسكريّة الفرنسيّة قال: "أشعر أنّ النّهاية اقتربت". سبق هذه المعركة إبرام اتّفاقيّة "جنيف" سنة 1954 التي دخلها الجانب الفيتناميّ أقوى بعد انتصاره العظيم، بالرّغم من أنّ الاتّفاقيّة قسّمت بموجب أحد بنودها فيتنام إلى شقّيْن: شماليّ شيوعيّ "جمهوريّة فيتنام الديمقراطيّة" وعاصمتها هانوي برئاسة القائد العظيم "هو تشي منّه" وجنوبيّ رأسماليّ "جمهوريّة فيتنام" وعاصمتها سايغون برئاسة "نغودين ديام" الذي فرضته أميركا، رغم أنّ هذا التّقسيم بعكس الحُلم الوطنيّ الذي آمن بتحقيقه الزّعيم الحالم "هو تشي منّه" إلّا أنّه أنهى الوجود العسكريّ الفرنسيّ الدّنس عن ثرى الوطن الطّاهر، وبدأ دنس الغطرسة الأميركيّة الاستعماريّة يلوح وسيغوص في الوحل، حيث وكما غاص دنس الّذين من قبله، هكذا يكون الوحل الفيتناميّ الطّامي والصّمود السّامي قد أغرق السّابقين وسيغرق اللاحقين في الذّلّ التّاريخيّ. وبعد هذا الانتصار على الفرنسيّين قال الزّعيم: "لأوّل مرّة في التّاريخ تخرج دولة صغيرة منتصرة في الصّراع مع دولة استعماريّة كبيرة! لقد كانت انتصارًا لا لشعبنا فقط، بل لكلّ الشّعوب المستضعفة في العالم".
استقلال! لكنّ الحرب لم تنته:
عندي اعتقاد شبه راسخ، مضمونه إنّ التّاريخ بأحداثه وبحقائقه ينشأ من ذواتنا، وقد يكون هذا التّاريخ ناشئًا من ذات فرديّة، ولكنّه في الغالب ناشئ من فكر ذات جماعيّة، فهل إذا عاد التّاريخ إلى ما قبل التّدخّل الأميركيّ في فيتنام، وبعد كلّ تلك السّلسلة المأساويّة والمجازر والضّحايا والخسائر المادّيّة والمعنويّة، للأميركيّين قبل الفيتناميّين، هل كانت أميركا تفكّر فتعود إلى إنشاء التّاريخ ذاته! الذي نشأ عن ذات فكريّة استعماريّة كولونياليّة، غايتها الهيمنة والاستغلال والأطماع. لا أستطيع الجزم بِ "لا" لأنّ الفكر الاستعماريّ ليس موضع ثقة وهو ملطّخ بالدّنس، والأطماع الاستعماريّة لا تعرف حدودًا في تأجيج الخلافات بين الشّعوب والدّول، ولا ترعوي عن ارتكاب المجازر والاضطهاد والاستغلال بهدف نهب الثّروات وجني الأرباح.
طهُرت الهند الصّينيّة من القدم الفرنسيّة الاستعماريّة الدّنسة وباتت القدم الأميركيّة تنتظر دوسها للطّهارة الفيتناميّة، واستقلّ فيتنامان، ولكنّ الاحتلال والأطماع الإمبرياليّة والتّدخّل الاستعماريّ لم ينتهِ، والاستقلال التّامّ الذي عبّر عنه "هو تشي منّه" كحُلم في بداية الصّراع الدّامي لمّا يتمّ هو الآخر، كان يحلم بدولة فيتنام الواحدة، مستقلّة وموحّدة يعيش فيها الشّعب الفيتناميّ كلّه الّذي ظُلم فقاتل فضحّى فانتصر، ولكن هذه هي عادة الاستعمار، يدخل بسواد في فكره ويديه ويقتل ويبطش بسواد سياسته وناره وحقده ولا يذهب إلّا وقد ترك وراءه وصمة عار سوداء عند رحيله يبقى أثرها الأسود إلى كثير من السّنين.
أبرز سمات هذه الفترة هو التّمهيد الفرنسيّ قبل الأفول، وتصوير الوضع للأميركيّين على أنّ الحرب في فيتنام كانت حربًا أهليّة داخليّة، فطلبت المساعدة العسكريّة لفرض التّهدئة، ولكنّ لأميركا أسبابها وأطماعها فقد نظرت بقلق لتصاعد المدّ الشّيوعيّ في جنوب شرق آسيا، وقد ترافق ذلك مع تصاعد التّوتّر في الحرب الكوريّة، ولذلك قرّرت سنة 1953 الدّخول مكان الفرنسيّين الخارجين.
وسمة أخرى باتت تتعاظم في هذه الظّروف، فبعد الانتصارات التي حقّقتها "جمهوريّة فيتنام الدّيمقراطيّة" الشّيوعيّة في الشّمال وعظمة القائد "هو تشي منّه" وإنجازاته الوطنيّة وإصلاحاته، فمنذ تولّى منصب رئيس "جمهوريّة فيتنام الدّيمقراطيّة" الشّماليّة لم يشغل باله السّياسيّ والاجتماعيّ، في الدّاخل والخارج إلّا أمران: الأوّل القيام بإصلاحات تعود على الفلّاحين الفقراء بالخير، فقام بالإصلاح الزراعيّ ورفع أجور الفلّاحين وأسّس مزارع جماعيّة لتأمين السّيولة النّقديّة والعملة الصّعبة، وأقام خططًا خمسيّة من أجل النّهوض بالبنى التّحتيّة وحسّن مستويات التّعليم ووسّع نطاق المستفيدين منه من الطّبقات الفقيرة، والأمر الثّاني هو الحلم السّياسيّ بتحرير فيتنام الجنوبيّة من النّظام العميل للاحتلال الأميركيّ وتوحيد الدّولتيْن بفيتنام واحد حرّ. لقد آمن "جيفارا" العظيم بحتميّة انتصار الثّورة بالقتال حتّى لو مات هو نفسه، لا تهمّه نفسه وحياته بشرط أن يأتي ثائر آخر يحمل بندقيّته ويتابع المعركة، وآمن "هو تشي منّه" العظيم بمسار الثّورة وضرورة استمرار القتال، فقال: "إذا مات شقيقي أدوس فوقه وأكمل المعركة". هكذا يتحوّل ظهر المقاتل إلى جسر يعبره المقاتل الآخر القادم بعده ليتابع سارية السّناء إلى الحرّيّة، وليس ذلك الظّهر الذي اعتاد الانحناء فسهل امتطاؤه على الأعداء، كما قال مرّة "غاندي"، لا وقت للحزن! كلّ الوقت للكفاح الدّؤوب الذي لا يترك للعدوّ لحظة راحة أو أمان، كلّ الوقت للكفاح المبدئيّ والعادل الذي يطهّر الوطن من دنس الاحتلال ويحرّر الإنسان ويحقّق للوطن الحرّيّة والاستقلال والكرامة.
أبنائي المواطنين بناتي المواطنات:
لم يرتح لتقسيم البلاد ومنذ أن تولّى الرّئاسة في فيتنام الشّماليّة بدأ الوعي القوميّ في فيتنام الجنوبيّة يتنامى، حيث حكم هناك رئيس نظام اسمه "ديام"، دمية نصّبتها أميركا، وتنمو مع الوعي القوميّ نقمة كبيرة على هذا النّظام العميل الموالي للسّياسة الأميركيّة والمنفّذ لمخطّطاتها وبرامجها للهيمنة والسّيطرة على الموارد والثّروات، تحت شعار "كبح خطر المدّ الشّيوعيّ"، تتأسّس في الجنوب حركة "الفيت كونغ" المقاومة الفيتناميّة لتحرير الجنوب، وتتحرّك في حرب عصابات وتمتدّ الحرب ضدّ قوّات الرّئيس "ديام" وضدّ القوّات الأميركيّة لتشمل الجنوب كلّه، بدعم من الشّمال ورئيسه العظيم "هو تشي منّه" وقوّاته، ولو كلّفه تحريرها احتلال لاوس ليسهّل الاتّصال بين الشّمال والجنوب، فتأسّست جبهة التّحرير الوطنيّة، التي أمّن "هو تشي منّه" لثوّارها ومحاربيها كلّ المساعدات والإمدادات، فنقل الأميركيّون الحرب إلى الشّمال بعد أن رأوا تأثير الشّمال الشّيوعيّ على الجنوب، وهم يريدون أيّ ذريعة للهجوم على الشّمال وإسقاط النّظام الشّيوعيّ ورئيسه الثّائر، مستخدمين الطّائرات الحربيّة والغارات الجويّة التي قصفت كلّ شيء بهدف تركيع المقاتلين، لكنّ السّحر انقلب على السّاحر الفاشل كما انقلب السّحر من قبل على كلّ السّحرة: الفرنسيّ واليابانيّ وكلّ المخطّطات الاستعماريّة البريطانيّة السّحريّة التي باءت بالفشل وعادوا كلّهم إلى بلادهم يجرّون ذيول الخيبة. لم تترك الولايات المتّحدة الأميركيّة أيّ أسلوب حربيّ ولا أيّ خطّة عسكريّة وعمليّات منظّمة وأسلحة ودمار وقصف وارتكاب مجازر (360 مجزرة موثّقة) ضدّ المدنيّين، ولكنّ الثّوّار الفيتناميّين يضربون ويختبئون في خنادق الأدغال وكهوف الجبال، استخدمت القوّات الأميركيّة النّابالم الحارق، في مجزرة "ماي لاي" الرّهيبة قتل 504 فلّاحين، بعد إلقاء أطنان من الموادّ السّامّة على القرى، حتّى هذه الأيّام كما بعد إلقاء القنبلة النّوويّة في هيروشيما ما زال يولد أطفال مشوّهون في هذه القرى الفيتناميّة كما في هيروشيما ونغازاكي اليابانيّتيْن. يذكر أنّ القيادة العسكريّة الأميركيّة كانت تقدّم هديّة لكلّ جنديّ أميركيّ سفّاح ومجرم، صندوقًا من المشروبات الرّوحيّة لأنّه قتل فيتناميّين أكثر، يا للعار! ليس للعسكريّة الأميركيّة المجرمة بل لهكذا "ديمقراطيّة" كذّابة ومجرمة هي الأخرى، حياة فيتناميّ بريء تساوي في السّوق الأميركيّة الفاسدة زجاجة من الويسكي أو إبريقًا من البيرة! حتّى على الشّعب في فيتنام الجنوبيّة الموالية لهم فرضوا الحكم البوليسيّ والقمع الاحتلاليّ والسّجن لمجرّد الاشتباه بالانتماء للشّيوعيّة. كان الرّدّ الكفاحيّ على كلّ تلك الجرائم بالصّمود الثّوريّ وخطابات العمّ اللّطيف "هو تشي منّه" الحماسيّة التي كان يبدأها دائمًا بِ "أبنائي المواطنين، بناتي المواطنات" والحضن الشّعبيّ الدافئ الذي حمى الثّوّار والمعونة العسكريّة السّوفييتيّة التي دعمت بالسّلاح والإمداد التّامّ الصّينيّ الّذي دعمت بإرسال 300 ألف مقاتل. وفي إحدى الخطابات قال القائد موجّهًا كلامه للأميركيّين: "يمكنكم قتل عشرة منّا مقابل كلّ واحد منكم، لكن مع ذلك سنهزمكم وننتصر"!
الثّنائيّ العظيم: هو تشي منّه وفون جياب:
إنّ ثورة كفاحيّة ذات مطالب عادلة ضدّ الاحتلال والظّلم، أهدافها السّامية: الحرّيّة والاستقلال والكرامة الوطنيّة والإنسانيّة، يقودها القائدان العظيمان "هو تشي منّه" والجنرال "فون نجوين جياب" وبعزيمة فيتناميّة فولاذيّة لا يمكن إلّا أن تنتصر! لقد اتّفق القائدان في الرّؤية الثّورية حيث أدركا إدراكًا تامًّا وآمنا بأنّه "إذا أردت أن تفسد ثورة فأغرقها بالمال" فابتعدا عن المال والتصقا بالغابات والنّاس معًا، في الجبال والغابات حيث "كلّ واحد من السّكّان جنديّ وكلّ قرية قلعة عسكريّة ولأنّ حرب العصابات هي حرب الجماهير العريضة في بلد متخلّف اقتصاديًّا ويقاتل ضدّ جيش عدوانيّ وجيّد التّدريب ووافر المعدّات"، هذا الحضن الشّعبيّ الدّافئ من الفلّاحين والقرويّين الفيتناميّين هو ملاذ العصابات الثّوريّة، لقد كان هذا الحضن عمودًا راسخًا من الأعمدة التي قام عليها الانتصار الكبير، لا يقلّ عن نجاعة السّلاح السّوفييتيّ وقوّة الدّعم العسكريّ الصّينيّ. في الآونة الأخيرة وتصديقًا لمقولة القائديْن حول الثّورة وإفسادها بالمال أشمّ رائحة مال كثير ومغرق في الفساد يأتي من جهات ومنظّمات سوداء مفسدة هدفها تغيير وجهة نضالنا القوميّ ومسارنا الكفاحيّ ليضيع هذا الكفاح في متاهات سوداء وسراديب مظلمة وملتوية، لن يعود منها كفاحنا بسلام ولن نعود إلى رشدنا إلّا بفضح هذا الاتّجاه الموجّه من بعيد، وربّما من وراء البحار حيث يعيش "العمّ سام".
كانت القوّات الأميركيّة تقوم بجرائمها بعيدًا عن عيون الكاميرات وآذان وسائل الإعلام، لكنّ المبالغة في التّوحّش الإجراميّ الفعليّ في بعض المجازر كان لا يمكنه أن يختبئ ولو أراد عن الإعلام غير المجنّد للأميركيّين، لقد عرفت قضيّة "جندي الشّتاء" التي فضحت الجرائم الأميركيّة الفظيعة التي ارتكبتها القوّات البريّة، ولكنّ تلك الفظائع المرعبة لم تكن لتلوِ ذراع الثّوّار البواسل، إنّ التّعاون الثّوريّ الخلّاق والتّنسيق العسكريّ والتّخطيط للمقاومة والمواجهة بين القائديْن الشجاعيْن جعل الكفاح يؤتي ثماره الطّيّبة، الرّئيس القائد "هو تشي منّه" يشرف على المعارك التي ينفّذها الجنرال القائد "جياب" بتكتيكات وخطط متقنة، وكان "هو تشي منّه" قد عيّن الجنرال "جياب" منذ تولّى الرّئاسة سنة 1945 وزيرًا للدّاخليّة وقائدًا للجيش، ومن ثمّ وزيرًا للدّفاع فنستطيع القول "أخذ القوس باريها". الميليشيّات الشّيوعيّة وَ "الفيت كونغ" تقوم بمهاجمة مواقع القوّات الأميركيّة في الأدغال وتختبئ في خنادق حفرت تحت الأرض، لتجنّب المدن القصف الجويّ الأميركيّ العنيف، ومع ذلك كانت تقوم القوّات الأميركيّة انتقامًا من ضربات الفيتناميّين، بالقصف والتّدمير، وأشهرها معركة هانوي سنة 1968. كانت الهجمات الهمجيّة الأميركيّة أيضًا تعتمد على تلفيق الإشاعات لتباشر قصفها وتدميرها، وأشهرها حادثة خليج "تونكين" سنة 1964 حيث ادّعت أنّ زوارق فيتناميّة شماليّة تحمل طوربيدات حربيّة لاحقت وهاجمت مدمّرتيْن أميركيّتيْن، كانت تلك الإشاعات الملفّقة تمهيدًا وذريعة لزيادة عدد القوّات الأميركيّة في فيتنام، إذ كان عددهم في عهد الرّئيس "جون كنيدي" (1961 – 1963) 16 ألف جنديّ ليصل بقرار من خلفه الرّئيس "ليندون جونسون" (1963 – 1969) إلى 184 ألف جنديّ. لم يكن الزّجّ بأعداد كبيرة من الجنود الأميركيّين يعني الكثير أو يحرز مزيدًا من الانتصارات من الناحية العسكريّة أو يرفع المعنويّات أمام الميليشيات والعصابات الفيتناميّة ذات الأعداد القليلة والسّريعة الحركة والهجوم والضّرب والاختباء، على النّقيض التّامّ، جنود أميركيّون أكثر يعني قتلى وجرحى وأسرى أكثر في كلّ مواجهة!
من الرّعد إلى الرّعد المستمرّ:
دامت الحرب الأميركيّة في فيتنام بشكلها الفعليّ على الأرض عقديْن من الزّمان، (1954 – 1975) حتّى سقوط "سايغون" عاصمة فيتنام الجنوبيّة، وكان الهدف الأميركيّ المعلن منع الشّيوعيّين من الاستيلاء على فيتنام الجنوبيّة الموالية لهم، فتأسّست في جنوب فيتنام الجبهة الوطنيّة من أجل تحرير جنوب فيتنام "الفيت كونغ" سنة 1964 بدعم من جمهوريّة فيتنام الدّيمقراطيّة، كردّ فعل ثوريّ على التّدخّل العسكريّ الأميركيّ، وقد تحوّلت هذه الجبهة الوطنيّة والقوّات الشّماليّة إلى العمل بتنسيق كامل وشامل ومعلن، وصارت تملك القدرة للانتقال من مواقع الدّفاع وردّ الفعل إلى مواقع المبادرة والمباغتة والهجوم، كان هجوم "تيت" يوم 31/1/1968 من أشهر المواقع الحربيّة التي بادرت إلى شنّها القوّات الشّماليّة وَ" الفيت كونغ"، لقد أشرف القائد "هو تشي منّه" على هذه العمليّة بقيادة الجنرال "جياب" الّذي أرادها حملة عسكريّة كبرى بخمسة وثمانين ألف مقاتل، قاموا بحملات منسّقة وضربات شرسة على 100 مدينة في فيتنام الجنوبيّة، ومنها ما طال مقرّ قيادة الجيش الأميركيّ والسّفارة الأميركيّة في "سايغون"، كان هدف الفيتناميّين إخراج القوّات الأميركيّة خارج الحدود، خسائر فادحة للقوّات الأميركيّة! قُتل في هذه المعارك 1100 جنديّ أميركيّ وَ 2100 جنديّ من جيش فيتنام الجنوبيّة الموالي للقوّات الأميركيّة، وتوالت الهجمات بثانية وثالثة كان لها نتائجها الإيجابيّة عسكريًّا وأحرزت مكاسب سياسيّة كبيرة للفيتناميّين، أبرزها بداية الحديث عن هدنة وعروض للتّفاوض للبدء في عمليّة للسّلام، لم تغرِ هذه العروض الجانب الفيتناميّ الفاعل والحاسم، وكان شعار القائد ثوريًّا "التّحدّث أثناء القتال"، فلا وقف للحرب إلّا بعد أن تغادر آخر قدم وحشيّة أميركيّة دنّست أرض البطولة والصّمود والطّهارة، لقد أسقطت هذه المعارك الرّئيس "جونسون" فلم يستطع التّرشّح لولاية ثانية بسبب التّورّط في الحرب القذرة، فغادر الرّئاسة بذيل ناعم وشعور بالمهانة. حاول الأميركيّون الرّدّ على تلك الإنجازات الوطنيّة الفيتناميّة بعمليّات عسكريّة هدفها رفع معنويّات الجنود الأميركيّين والجيش الجنوبيّ وإجبار الشّماليّين على عدم مساعدة "الفيت كونغ" فهدّدوا بتدمير كلّ شيء في فيتنام الشّماليّة، بدأت بعمليّات عسكريّة كثيفة وحاقدة ووحشيّة، كانت أولاها عمليّة "الرّعد"، تلتها عمليّة "ضوء القوس" فعمليّة "الرّعد المستمرّ" وبينها حملات قصف رهيبة دامت لثلاث سنوات، وكانت التّقديرات أنّ القوّات الأميركيّة قد أغرقت الشّمال الفيتناميّ الشّيوعيّ بمليون طن من القذائف والصّواريخ والقنابل. كانت النّتيجة المادّيّة الدّمار المدنيّ وقتل الأبرياء، أمّا على المستوى الاستراتيجيّ والسّياسيّ فقد كانت النّتيجة صفرًا مكعّبًا. في أثناء هذه المعارك الحامية الوطيس تدهورت صحّة القائد العظيم، ولكنّه ظلّ يحمّس المقاتلين من خلال المذياع، يحثّهم على المواجهة حتّى التّحرير الكامل.
مات القائد العظيم يوم 2/9/1969 عن عمر ناهز التاسعة والسبعين، مات ولمّا يتحقّق حُلمه العظيم بالتّحرير الكلّيّ وبفيتنام واحد مستقلّ وموحّد.
على طريق الذّلّ الفرنسيّ:
كان من الطّبيعيّ كم يقضي حكم التّاريخ أن تبدأ الولايات المتّحدة الأميركيّة أولى خطواتها على طريق الذّلّ الذي غاصت في أوحاله فرنسا، وبخاصّة بعد هجوم "تيت" الفيتناميّ العسكريّ المكثّف سنة 1968، من هذه الأوضاع العسكريّة والسّياسيّة المحرجة بدأت القوّات الأميركيّة بالتّراجع، وزير الدّفاع الأميركيّ "روبرت ماكنمارا" الّذي كان من أشدّ مؤيّدي الحرب على فيتنام ودعا دائمًا إلى تصعيد التّدخّل العسكريّ بمزيد من القوّات البريّة وبالاعتماد على التّفوّق الجويّ، بعد هجوم "تيت" أعرب "ماكنمارا" نفسه وبعد سلسلة من حملات القصف المكثّفة على فيتنام الشّماليّة كلّ ذلك التّفوّق والتّكثيف العسكريّ لم يحقّق شيئًا أو هدفًا يُذكر، فأعرب عن شكوكه في تحقيق الانتصار، لقد ترافق مع ذلك هبوط حادّ في معنويّات الجنود الأميركيّين، وزاد التّسكّع وتعاطي المخدّرات وعصيان الأوامر، حالة انهيار نفسيّ ومعنويّ ألمّت بالجنود والضّبّاط الأميركيّين. الجنرال "كريتون إبرامز" أحد أبرز قادة الحرب في فيتنام قال: "أنا بحاجة إلى إرجاع هذا الجيش إلى وطنه لإنقاذه"! هذه دلالة أخرى على المعنويّات المتدنّية، في سنة 1969 ومن هذه الحالة بدأت القوّات الأميركيّة بالانسحاب تدريجيًّا وبعدم المشاركة المباشرة بالقتال، فانحسرت هجماتها بالكامل، معتمدة على ما يمكن أن يفعله الجيش الفيتناميّ الجنوبيّ العميل والمنهك.
"لم أستطع الصّمت في مواجهة هذا التّلاعب الوحشيّ بالفقراء لأنّه يأتي وقت يكون فيه الصّمت خيانة وقد أتانا هذا الوقت في حرب فيتنام"، هذا ما قاله الثّائر الأسود "مارتن لوثر كينغ" عن حرب فيتنام، لقد حاول الرّئيس "جونسون" مقايضة السّود بإعطائهم حقوقهم المدنيّة وحقّ الانتخاب مقابل موافقتهم على حرب فيتنام، وطلب من "مارتن لوثر كينغ" أن يصمت ولا يقول رأيه منها جهارًا، فأبى وناضل من أجل إنهائها، ولقد عبّر "مارتن لوثر كينغ" عن السّقوط الأميركيّ في هذه الحرب بقوله: "إنّ أحد أكبر ضحايا الحرب في فيتنام هو المجتمع الأميركيّ العظيم الذي سقط في ساحة الحرب".
ومنذ ذلك الوقت تنامت واتّسعت الحركة المناهضة للحرب على فيتنام، في الولايات المتّحدة وأوروبا والعالم كلّه، الرّأي العامّ الأميركيّ رأى بالحرب حربًا قذرة ولا مسوّغ لاستمرارها المدمّر، وظلّت هذه الأجواء والرّؤى هي السّائدة في العالم، تتعالى الأصوات والهتافات في الشّوارع والميادين والسّاحات في المدن الكبرى في جميع أقطار العالم: " كفى، لا للحرب"! وَ "ارفعوا أيديكم عن فيتنام".
في هذه الأحوال العصيبة أميركيًّا والمريحة فيتناميًّا بدأت محادثات السّلام في باريس سنة 1968 بين الولايات المتّحدة، يمثّلها مستشار الأمن القوميّ الأميركيّ "هنري كيسنجر" وفيتنام، يمثّلها عضو المكتب السّياسيّ للحزب الشّيوعيّ الفيتناميّ "دوك ثو"، وبعد مداولات ومباحثات وصعوبات وعراقيل يصل الطّرفان في 27/1/1973 إلى توقيع اتفاقيّة "باريس" لإنهاء الحرب ولترسيخ السّلام، اقتسم المفاوضان: "كيسنجر" وَ "دوك ثو" نتيجة لجهودهما في التّوصّل إلى السّلام جائزة "نوبل" سنة 1973، فتسلّمها "كيسنجر" بيديه المدنّستيْن ورفض تسلّمها "دوك ثو" لطهارة في يديه وروحه وقال: "إنّ السّلام الحقيقيّ لم يتواجد بعد"، فيا لجلال الموقف الفيتناميّ!
كان أوّل بنود الاتّفاقيّة وأبرزها "انسحاب جميع القوّات الأميركيّة والمتحالفة معها خلال 60 يومًا" وقد تمّ ذلك وتحقّق فعليًّا على الأرض يوم 15/8/1973، إذ انسحبت آخر قدم همجيّة عسكريّة أميركيّة عن الثّرى الفيتناميّ الطّاهر، فما أشبه هذا اليوم الأميركيّ الذّليل بتلك البارحة الفرنسيّة الذّليلة! وإلى الجحيم أيّها الغرب المفترس!

لمتابعة القراءة اضغط هنا

مقالات متعلقة