.. وهكذا بعد أن كان الحاسوب سببا في تتبّع سور رسائلهِ الطّويلة الّتي لفّت قطر العالم تقريبا، أصبح الحاسوبُ سببا في التّواصل مع كلّ الرّسائل الّتي تصلني من كلّ مكان بما فيها بلده وبريده، ما عداهُ!
- رجاء بكريّة
قَرنُ الزّوم
هل نطلق على هذا القرن، "قَرن الزّوم" وبامتياز، أم أنّه لا يزال باكرا أن نُسيلَ دم الحبق على باب الأرق، باب السّنة القادمة؟ هل سنعتبر قرارا كهذا مارقا ذات يوم، أم أنّنا نسبق الحقائق، ونطلق أحكامنا الاعتباطيّة شأن أيّ شيء آخر في حياتنا؟ تساؤلي هذا لا ينطوي على أيّ ادّعاء بالسّذاجة بل على كثير قلق وتعب. كيف يمكن أن ندير عملنا عبر الزّووم في كلّ شيء ومن البيت؟ مع الطلّاب والطّواقم والقِطاعات باختلاف انتماءاتها. فطالب الكليّة بات يعرف كطالب الإعداديّة تماما تفاصيل الغرفة السريّة جدّا في بيوتنا وبيتي أنا مثلا وأعني، "حياتي اللّيلية مع الحرف" موقعُها، زاوية انحنائها، لونها، ماركة خشبها، كنوز كتبها. هم يحفظون الآن رفوف مكتبتي وأبرز الكتب الّتي تحرسني، ويسألونني كثيرا عن الكتاب الّذي يتصدّره فأرا أو بحرا أو كأس نبيذ، أو لحية شيخ وأضطر مرارا لتبديل مواقع الكتب وترتيبها والإغلاق عليها. لماذا يُغلَقُ عليّ ولا يُغلقُ عليها مثلا؟
عِطر الغِمباز
وحين تشارك في يوم شتويّ تغيب فيه الشّمس باكرا كهذا اليوم، بثلاث لقاءات طاقم متواصلة عبر الزّوم ستكتشف أنّك خسرتَ يومك دون أن ترى الغيم أو الشّمش. دون أن تصل حتّى إلى الشّرفة القريبة منك وتشمّ عطر الغمباز أو القُدسيّة فاتك الرّوح. الزّهرة الّتي أدخلتُها حديثا لقائمة مفضّلاتي كي تُهدّىء روحي كلّما تجِعْلكْتُ من شجن العالم. توزّعتُ بين الإجتماعات الثّلاث. قصصتُ من هذا لأدرك ذاك. احتلتُ على وقت الثّاني لأكسب فائض دقائق من وقت الأخير. راوغتُ الزّجاج وحاولتُ أن أتخيّل العطر العميق لزهرتي حارّة الشّوق، فوجدتُ أنّي خسرت من الثّلاثة، ولم أصل إلى الشّرفة لأملأ رئتيّ من عطرها. طفرتُ فجأة كما يفعل الأطفال حين نستبدل سيّارة اللّيموزين السّريعة والفارهة بطولها المخمليّ بمركبة طويلة لنقل الموبيليا، ونقدّمها لهم لتمويه ذاكرتِهم ونغضبهم. شيئا فشيئا وجدت نفسي أغوص في متاهة، لا أدرك معها نفسي. لا أبعاد لجسدي الآن استحال إلى كتلة عصيّة على الفهم، متصلّبة تماما، ومتألّمة أيضا. كان يجب أن أتّخذ قرارا ما لأفصِلَ عالمي المرتبك عن آخره. إنّها اللّحظة المناسبة كي أرتّب تفاصيلي، وأعضائي أيضا. أردت أن أطمئنَ لموقع استدارة كتفي، حيث تضوعُ رائحة الشّغف، ثمّ عُنقي وعينيّ ثمّ ساقيّ وموقع قلبي الّذي يدقّ بالتّزامن مع مارش خطواتي حين أغضب أو أتأزّم أو أطيرُ بخفّةِ ليلَك.
طَفَر
ابتعدت عن الحاسوب، أغلقت الصّوت والكاميرا من طرفي، بحيث ضمنتُ متابعة ما يحدث دون أن أثير فضول الآخرين حول نشاطي المسروق من وقت الإستضافات الإلكترونيّة التّهريجيّة في معظمها. لقد نسي العالم الحدود بين الوقت والتّوقيت، وأصبح سحب الإجتماعات أمرا سهلا للغاية نفرِدُها أو نكمشُها بليونة عجينة، بلا ضجيج من أحد بما أنّنا جالسون وفي البيت فيمكن إضافة وقت للتّوقيت. لم أعد أسمع صوت احتجاجاتي على تجاوزات كهذه، كأنّ زمن السّفر عبر الشّوارع كان مبرّرا للإعتراض على إطالة الوقت قنصِهِ أو سحبهِ بلا وازع! هذه المرّة تواطأتُ مع نواياي غير البريئة تجاه الغرق الفوضوي الّذي نذهب إليه ممغنطين تماما للتّلقائيّة والعفويّة وتحصيل الحاصل. فردتُ سجادة صغيرة على البلاط وبدأت ممارسة الرّياضة مصغية لكلّ ما يصول ويجول في علبة الحاسوب المشبعة بالأصوات والصّور، فالمداخلات المصوّرة والمسموعة كلّها أصبحت ثروة فنيّة لا تخصّنا بقدر ما تخصّ هذه الآلة العجيبة الّتي نسمّيها حاسوبا. بطريقة ما كان يجب أفكّك عضلاتي الّتي انكمشت وتوتّرت. بهذه الطّريقة فقط ركّزتُ بمضمون الطّروحات، وإلّا كنتُ ساسجّل أدنى حضور لوجستيّ في تاريخ الإجتماعات قاطبة. أَلِهذهِ الأماكن يأخذنا عصر الكاميرا عن بُعد، إلى متاهة؟
ذاكرة التّكنولوجيا الأولى
هل أذكّركم بأوّل مرّة دخل فيها هذا الكائن إلى حياتنا ورفضناه؟ كنت من بين الّذين أعلنوا العصيان على كبساتهِ، لكن فجأة، ودون سابق إنذار وجدتُني أعومُ شأنَ حروفِهِ ونقاطِهِ بين نقراتِهِ وشاشتهِ. تعلّمت أسراره بدافع حاجتي لحفظ ما أكتبه. حين امتلكتُ حاسوبا بيتيّا طمعت! فجـأة طمعت، نسيتُ تهديداتي لنفسي، ولأصابعي الّتي تشاكس نوتاته بغزل غير مسبوق. بحثت عن حاسوب متنقّل يستطيع أن يرافقني لكلّ مكان، وكان أجمل ما حدث أنّي حصلت عليه كهديّة ثمينة من رجل أغرِمَ بحياتي، فكان جاهزا وقت كانت هذه العلبة للأثرياء أن يهديني أفضل ماركاته. لم يقبل اعتراضي. سحبهُ من دولة لدولة. التقينا بين قارّتين ومعه باركو جميل يسعف محاضراتي. فاتن ما حدث، فاتن حدّ خيانة الفتنة ذاتها. هكذا وبمثل هذه السّهولة تورّطتُ بالتّكنولوجيا، ولم أتورّط بالرّجل! بُعيد شهور قليلة انتقل غرامي لحاسوبي، نسيتُ صاحبهُ تماما، صاحبهُ الغيور جدّا من كلّ شاشة صغيرة تدخل هاتفي أو حاسوبهِ الّذي أسميتهُ حاسوبي الشّخصي. تساءلت بعد أيّام على قرار انفصالي وعقوقي، هل تعارفنا ليهديني التّكنولوجيا ويُرَحَّل؟ كان السّؤال غزير التّفاصيل، طازج الأثر. حاولت أن أجد وسيلة لإعادته، لكن الوسيلة الوحيدة لم تعجبني. أن ألتقيه مرّة أخرى من أسباب الخيال قطعا. لن أتخلّص من هذه العلبة الغالية، لكن سأشطب صاحبها شاء أم أبى، وسأتوقّف عن عبور القارات كي ألتقيهِ لأيّ سبب ولو من باب البرهنة على دفء نواياه وشغفهِ بصوتي. ولو من أسباب إثبات نواياه غير الحاقدة أو الكاسرة لخصوصيّاتي مع كلّ رجل أسلّم عليهِ أو ألتقي به على منصّة أو في شارع. مذهلا كان أن يعدّ خطواتي عن بعد مليون ميل! وهكذا بعد أن كان الحاسوب سببا في تتبّع سور رسائلهِ الطّويلة الّتي لفّت قطر العالم تقريبا، أصبح الحاسوبُ سببا في التّواصل مع كلّ الرّسائل الّتي تصلني من كلّ مكان بما فيها بلده وبريده، ما عداهُ! توقّفت علبة العجب عن كونها بريدا بل أصبحت طابعة وكاميرا حرص أن ينتقيها لي بعناية رغم أنّي لم أفتحها مرّة واحدة كي أتواصل معه عبر غمزتها الضيّقة وبرغم إلحاحِهِ. كنت أزعل من إصرارهِ الغريب، "هل ستراني بالبيجاما أو بملابس خفيفة؟ كأنّ الزّينة الكاملة ظلّت سببا للإحتجاج. والحقيقة لم أستظرف العادات والتّقاليد الكثيرة إلّا حين شكّلت ذريعة قاطعة لعدم تلبية رغباتهِ المزعجة. ما أغربنا حين نحبّ وحين نضجر؟ مدهش كيف نتوقّف عن استلطاف شخصّ كنّا ننتظر رسالة منه بحرف واحد ونقطة! والآن مجلّدات رسائل في الهيام والشّوق لا تحرّك أطراف أظافرنا المُمنكَرة بالرّفض. أضجرتني الغيرة حدّ الرّفض القاتل. لا أعرف تحديدا لماذا أغوص بهذه التّفاصيل الآن رغم أنّي تكتّمتُ عليها ما يزيد عن عشر سنوات. ابتدأ كلّ شيء وانغلق بحضارة بالغة لكن وسط طوفان من المكالمات الضّالة والرّسائل والتمنّيات والحنين الّذي ركلتهُ ركلا. خَلَص! حين ينبشُ حياتك رجل بمثل الدّقة الّتي مارسها ويصل حتّى لأصدقائكَ كي يعرف أين أنت سيذوب كلّ شيء بما في ذلك المعزّة. ببساطة لم أعد أراه. فتحتُ شاشتي لوجوه كثيرة انتظرت أيّاما أن أردّ عليها. أصبحتُ حرّة عبر حاسوبهِ أستضيف وأنفي من أشاء، هو بلّكته تماما. أردت أن أتنفّس شيئا غير اسمهِ وعناوينهِ وملاحظاتهِ وغيرتهِ، وشكّهِ الحارق.
بِخيانة
وهكذا، بمثل البساطة الّتي لا نتوقّعها صار لا ينفع أن نسافر دون سحب هذه العلبة السّحريّة معنا فعالمنا كلّه أصبح هناك حتّى صورنا، الحميميّة والمارقة، استضفناها هناك. بخيانة غير مسبوقة للورق احتضنّا الشّاشة، لكن بعودة تدريجيّة إلى صواب الرّوح بدأتُ أسترجِعُ ورقي لتوثيق حياتي. بدأت أشعر بالفقد حيال تلاشي رائحة الرّصاص من عمق البياض الصّادح في أطرافي ومركزها. كيف يمكن أن نعاف مساحات البياض الواسعة الّتي ظلّت وفيّة لأصابعنا منذ نعومة أيّامها؟ ونغادر قطار الكلمات المتقاطعة الّتي ربَيِت على رصاصها الكثيف المُخربَش عقولنا الصّغيرة. كلّ سيء بات ممكنا وأنت على مفترق طرق سيّدهٌ حاكم العالم الثريّ القادر. عليك وأنت تختار التوزّع أن تكون حذرا لئلا تغضب المسافات الطّويلة الّتي مشاها حاسوبكَ حتّى وصل إليك شرط ألّا تهملَ نظراتك الحانية لمركز عالمك الصّغير قصاصات الأبيض الّتي ملأتَ بها رفوف مكتبتكَ الذّهبيّة، وجوارير الوالدة الّتي فاضت بأفكارك واحتلّت مكان الجوارب والمناديل الحريريّة حين كان للمناديل عزّ ومرتبة.
سلاما إلى شاشات الذّاكرة المحوسبة في أيّام لا يجوز معها أيّ فعل خارجَ موجها المثير للمخيّلة، موجها الأبيض، الّذي تركَ بحارهُ هو الآخر وتقلّب في فراشها كي ينجو من الغرق. سيّدة الوقت صارت، وضابط سير العالم، فهل يمكن الآن أن نرسم خارطة انفصالنا المستقبليّ عن ألوانها وماركاتها أم أنّ هواجسنا مجرّد حلُمٍ عبثيّ بانعتاق لا مبرّر لنقاشهِ؟ ومن سيستقيلُ من نفسهِ قبل الآخر أنحنُ أم شاشاتنا الّتي التهم ذكاؤها فائض المخيّلة الّذي شِلناهُ ليوم غائم فاستحالت سماءاتنا من أفقها لأفقها غيوما مزمنة..؟
آذار| 021
حيفا
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان alarab@alarab.com