الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 24 / أبريل 03:02

الوسطى- قِصَّةٌ قَصيرة

بقلم: حسين مهنا

حسين مهنا
نُشر: 24/04/21 13:37,  حُتلن: 14:51

رنَّ جَرَسُ التِّلِفون في بَيتِ السَّيِّدِ عائِد مَعَ شُروقِ شَمْسِ نَهارٍ عادِيٍّ مِنْ شَهْرِ شُباط َالَّذي (إِنْ شَبَط وإِن لَبَط رائِحَةُ الصَّيفِ فيه!). مَعَ أَنَّ المُتَعارَفَ عَلَيهِ عِنْدَ القَرَوِيّينَ أَنَّ شُباطَ يَحِلُّ ضَيفًا كَإِخْوَتِهِ مِنْ أَشْهُرِ الشِّتاءِ، ورَغْمَ ضَعْفِهِ وقِصَرِ قامَتِهِ بَينَهُمْ إِلّا أّنَّهُ لا يُبارِحُ إِلّا بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ مَعهُ مَجْموعَةً لا بَأْسَ بِها مِنْ مُعَمِّري القَريَةِ....
رَفَعَ السَّيِّدُ عائِد السَّمّاعَةَ..
-هالو! ......نَعَم!
-نَحْنُ مِنْ بَيتِ المُسِنِّينَ... والِدُكَ تَوَفّاهُ الله!
-شُكْرًا العُمْرَ الطَّويلَ لَكُمْ.
قامَ السَّيِّدُ عائِد وإِخْوَتُهُ وأَخَواتُهُ والأَقْرِباءُ والجيرانُ وأَهْلُ القَريَةِ جَميعًا بِتَكْريمِ المُتَوَفَّى على أَحْسَنِ وَجْهٍ.. ولَحِقَ من هذا التَّكريمِ نَصيبٌ لِلْوالِدَةِ أُمِّ عائِد الّتي تَوَفّاها اللهُ قَبْلَ سَنَواتٍ لِطيبَتِها ولِوقوفِها إِلى جانِبِ زَوجِها في الضَّرّاءِ قَبْلَ السَّرّاءِ.
والحَقُّ يُقالُ إِنَّ المُتَوَفَّى يَسْتَحِقُّ هذا التَّكريمَ، بَلْ وأَكْثَرَ مِنْهُ.. فَمُذْ جاءَ لاجِئًا الى هذِهِ القَرْيَةِ وهْوَ مِثالُ الإِنْسانِ الشَّهْمِ، والفَلّاحِ النّاشِطِ المُحِبِّ لِلأَرضِ، والعارِفِ بِشُؤونِ الزِّراعَةِ ومَواسِمِ الزَّرْعِ وكُلِّ ما لَهُ عَلاقَةٌ بِما يَجِبُ على الفَلّاحِ الأَصيلِ مَعْرِفَتُهُ من أَنْواعِ التُّرْبَةِ، ومِنْ فُنونِ الزِّراعَةِ، فَلا عَجَبَ إِذًا إِنْ أَصْبَحَ مَرْجِعًا لِفَلّاحي القَرْيَةِ وهْو صاحِبُ الخِبْرَتَينِ: خِبْرِةِ الآباءِ والأَجْدادِ، والخِبْرَةِ العِلْمِيَّةِ الَّتي جَناها مِمّا قَرَأَهُ ويَقْرَؤُهُ في الكُتُبِ الَّتي جَعَلَ مِنْها أَصْدِقاءَهُ الأَوفِياءَ، وجَعَلَتْ مِنْهُ مُثَقَّفًا.. أَجَلْ.. مُثَقَّفًا بِما تحْمِلُ هذِهِ الكِلِمَةُ مِنْ أَبْعادٍ..
شُرودُ السَّيِّدِ عائِد لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ حُزْنِهِ على وَفاةِ والِدِهِ فَقَطْ، بَلْ بِسَبَبِ الرِّسالَةِ الَّتي وَجَدَها في جَيبِ جاكيتِهِ الدّاخِلي.. تُرى ما تَحْمِلُ هذهِ الرِّسالَةُ؟! لَعَلَّها رِسالَةُ تَأْنيبٍ وتَقْريعٍ لِانْتِقالِهِ مِنْ بَيتِهِ إِلى بَيتِ المُسِنّينَ لِيَقْضي سَنَواتِهِ الأَخيرةَ.. ويَسْتَبْعِدُ السَّيِّدُ عائِد هذِهِ الفِكْرَةَ بِدَليلِ أَنَّهُ هو وإِخْوَتُهُ وأَخَواتُهُ، رَفَضُوا أَنْ يَتْرُكَ الوالِدُ البَيتَ.. ورَفَضُوا.. ورَفَضُوا...! ولَكِنَّهُ أَصَرَّ.. وأَصَرَّ.. إلى أَنْ نَزَلوا عِنْدَ رَغْبَتِهِ.. فَقَدْ رَعاهُمْ صِغارًا وأَقْعَدَهُمْ على ظَهْرِهِ راضِيًا آمِلًا، ولا يُريدُ أَنْ يَكونَ في كِبَرِهِ ثِقْلًا على أَحَدٍ؛ خاصَّةً هذِهِ الأَيّامَ الّتي جَعَلَتِ الحَياةَ فيها رَكْضًا، واللُّقْمَةَ الشَّريفَةَ أَمْرًا صَعْبَ المَنالِ..... وبالتّأْكيدِ لَنْ تَكونَ وصِيَّتَهُ؛ فَقَدْ كَتَبَها يَومَ وَزَّعَ الأَرضَ بَينَهُمْ.. الأَرْضَ الَّتي عَمِلَ فيها أَجيرًا.. فَنَكَشَ وحَرَثَ، وزَرَعَ وقَلَعَ، وجَمَعَ المالَ واشْتراها وأَصْبَحَ مالِكَها.
وما إِنِ انَفَضَّ الحَشْدُ حَتَى اعْتَذَرَ السَّيِّدُ عائد مِنَ الباقينَ ودَخَلَ غُرْفَتَهُ بِحُجَّةِ أَنْ يَرتاحَ قَليلًا.. فَتَحَ الرِّسالَةَ وأَخْرَجَ وَرَقَةَ فوليو مَطْوِيَّةً بِعِنايَةٍ.. فَتَحَها وقَرَأَ:
وَلَدي العَزيز (عائِد)! لَقَدْ أَسْمَيتُكَ عائِدًا تَيَمُّنًا بِالعَودَةِ.. يَومَها طَمْأَنونا بِأَنَّها قَريبَةٌ.. إنْتَظَرْنا.. وانْتَظَرْنا.. وها هُوَ ذا قِطارُ العُمْرِ قَدْ وَصَلَ مَحَطَّتَهُ الأَخيرةَ وما زِلْتُ أَنْتَظِرُ، وقَدْ آلَيتُ على نَفْسي أَنْ لا أُوَدِّعَ هذِهِ الفانيَةَ قَبْلَ أَنْ أَنْفُثَ ما في صَدْري مِنْ وَجَعٍ قَدْ أَزْمَنَ، ومِنْ خَيباتِ أَمَلٍ جَفَّفَّتْ لي مَصادِرَ فَرَحي ولَمْ تُبْقِ لي غَيرَ ضَحِكاتٍ ساخِرةٍ! كُنْتُ صَغيرًا وظَنّي أَنَّ الرِّجالَ لا يَبْكونَ.. البُكاءُ مَقْصورٌ على الأَطْفالِ فَقَطْ! الى أَنْ رَأَيتُ جَدَّكَ يَبْكي.. سَأَلْتُ جَدَّتَكَ بِبِراءَةٍ: لِماذا يَبْكي أَبي يا أُمّاهُ؟! قالَتْ وهي تَشْرَقُ، هيَ الأُخرى، بِدُموعِها: انْقَصَفَ عودُ السِّنْدِيانِ وذَوى غُصْنُ الرَّيحانِ عِزُّ الدّين القَسّام...!! لَمْ أَفْهَمْ، ولكِنّي تَخَيَّلْتُ أَنَّ أَمْرًا رَهيبًا قَدْ حَلَّ بِنا! وفي رَيعانِ شَبابي جاءَ اليُهْدانُ.. جاؤُوا بِمَكْرِ (رِفْقَةَ) زَوجَةِ (إِسْحَقَ) وابْنِها (يعْقوب)، وكانَـتْ تُفَضِّلُهُ على ابِنِها البِكْرِ (عيسو)...... قالَ عيسو: بارِكْني يا أَبي فَقالَ: قَدْ جاءَ أَخوكَ بِمَكْرٍ وأَخَذَ بَرَكَتَكَ! .... جاؤُوا وحَطَّ بِنا الهَجيجُ في هذِهِ القَرْيَةِ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَتْ قَرْيَتُنا رُكامًا مِنْ حِجارةٍ وَطينٍ.. وحين خَرَجَ أُولُو الأَمْرِ مِنْ ذَوي القُرْبى مِنْ جُحورِهِمْ، قالوا: إِذا كانَ الإجليزُ مِخْرَزًا فَنَحْنُ الكَفُّ الَّتي لا تَسْتَطيعُ مُلاطَمَتَها، إِنَّها نَكْبَتُنا! نَحْنُ نُريدُ واللهُ يَفْعلُ ما يُريدْ!!!
قُلْنا: بَلْ هي الدَّمْعَةُ الَّتي لا تَجِفُّ! وقالَتْ الجَمْعِيَّةُ العامَّةُ لِلْأُمَمِ المُتَّحِدَةِ: التَّقسيمُ هو الحَلُّ!! وقالَ الحَلَواني سَليم، الخَبيرُ بِشُؤونِ التَّقسيمِ: لَقَدْ أَصْبَحَتْ بِلادُنا كَعْكَةً!!
وحينَ أَرْعَدَتْ مَدافِعُهُم مَرَّةً ثانِيَةً وأَكَلَتِ الكَعْكَةَ كُلَّها، قالَ مَنْ جَلَبُوا الهَزيمَةَ: إِنَّها نَكْسَةٌ!! قُلْنا: بَلْ هي الهَزيمَةُ!! لَكَأَنَّ هذِهِ البِلادَ مُحَرَّمَةٌ عَلَينا.... كَمْ مِنْ غُزاةٍ مَرُّوا مِنْ هُنا ...حِثِّيّونَ وفَراعِنَةٌ وهِكْسوسُ ويونانِيّونَ ورُومُ وبيزنطِيُّونَ وتَتَارُ ومَماليكُ وصَليبِيّونَ وأَتْراكُ وإِنْجليزُ ويُهدانُ ونَحْنُ إِمّا (زَكَرِيّا) يُنْشَرُ أَوْ (مِسيحٌ) يُصْلَبُ!! لَقَدْ عِشْتُ ما عِشْتُ وأَنا كَالحَزينَةِ الّتي جاءَتْ لِتَفْرَحَ فَلَمْ تَجِدْ لَها مَطْرَحًا.. قيلَ لي: لَقَدْ بالَغْتَ! أَحَقًّا لا تَجِدُ لَكَ مَطْرَحًا وهذا العالَمُ الرَّحْبُ يَتَّسِعُ لِمِلايينَ فَوقَ مَلايينَ؟! قُلْتُ: بَلى.. ولكِنَّ مَطْرَحي اليومَ رُكامٌ فَوقَ رُكامٍ.. كانَ يَشْكو مِنَ الضّيقِ ولكِنَّهُ كانَ يتَّسِعُ لِأَلْفِ صَديق! نَحنُ جيلٌ مَنْكوبٌ قَبْلَ النَّكبَةِ يا وَلَدي يا عائد.. يَقولونَ إِنَّ لِلنَّصْرِ طَعْمًا أَلَذَّ من طَعْمِ تُفّاحِ الجَنَّةِ! لَكَأَنَّ طَعْمَ ذاكَ التُّفّاحِ مُحَرَّمٌ عَلَينا فَنَموتَ مُلَفَّعينَ بِأَلْفِ خَيبَةٍ وخَيبَةٍ!
فَبِاللهِ عَلَيكَ يا وَلَدي أَنْ تَزورَ خَرابَةً كانَتْ قَرْيَةً يَومًا، وأَنْ تَقِفَ على أَطْلالِ بَيتِ أَجْدادِكَ، وتَرْفَعَ يَمينَكَ عالِيًا، وتَصْرُخَ بِأَعْلى ما أُوتيتَ مِنْ قُوَّةِ صِوتٍ قائِلًا: الوُسْطى مَعَ السّاعِدِ، إِلى ما فَوقَ الذِّراعِ في دُبْرِ هذا العالَمِ!

( البقيعة/الجليل آذار2021 )

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان alarab@alarab.com 

مقالات متعلقة