مع ندرة المصادر عن تاريخ فلسطين القديم، تقدم لنا بعض النصوص الرديفة من التاريخ والميثولوجيا إضافات هامة لمعرفة الأوضاع السياسية والثقافية والإجتماعية عن الجزء المعروف بإسم فلسطين، كجزء من وحدة سياسية أكبر وأكثر إتساعا كانت تاريخيا تُعرف بأرض كنعان ، والتي تعتبر بدورها من حيث جذورها أو تفاعلها الحضاري في مراحل مختلفة، جزءا من فضاء ثقافي اوسع سومري، أموري، آشوري، آرامي...الخ. ومع التأكيد على عُمق وأصالة الحضارة الكنعانية القديمة، وتميزها السياسي، إلا أنها شهدت في مراحل متأخرة سيطرة إدارية أو ما يُشبه الإنتداب المصري الفرعوني عليها، وبرز ذلك واضحا تحديدا في فلسطين.
من المصادر الأساسية، إضافة للسجلات الآشورية، وألواح أوغاريت التي اكتشفت في راس شمرا والتي تعود للقرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، وثائق ايبلا (ثلاثين ميلا جنوب حلب الجديدة)، الإرشيف الملكي لمدينة ماري السورية من القرن الثامن عشر قبل الميلاد ، تعتبر السجلات المصرية القديمة مصدرا بالغ الأهمية لتغطية مرحلة مهمة من تاريخ فلسطين قبل الميلاد، وهي ما تحاول هذه المقالة تسليط الضوء عليها بشكل عام ، ردا على محاولات التشكيك في هذا التاريخ، وفي قلب هذه السجلات : وثائق تل العمارنة، وهي مجموعة مراسلات دبلوماسية، جرت بين الفرعون أمنحوتب الثالث وامنحوتب الرابع (اخناتون) وعدد من خكام ودويلات بلاد الشام خلال القرن السابع عشر قبل الميلاد، وتم العثور عليها في موقع تل العمارنة (نسبة لقبيلة بني عمران) والذي يقع نحو 33 كم إلى الجنوب من مدينة القاهرة، حيث بنى أخناتون عاصمة جديدة له.
تسمية كنعان: تم إستخدام التسمية " كنعان" منذ الألف الثاني قبل الميلاد، وكانت ترد بصيغة " بي كنعان"، وفي نص يعود للفرعون سيتي الأول ضمن رسم توضيحي على جدران الكرنك، يرد إسم " كنعان" عند الحديث عن معاركه في آسيا وافريقيا:
" في السنة الأولى لحكم مصر العليا والسفلى ، بطشت يد الملك الجبار، بأعدائه من " الشاسو" من حصن "صايل" إلى "كنعان"، حيث تغلب عليهم جلالته كأسد هصور، فجعلهم أشلاء تسبح في دمائها بالأودية".
في أحدى رسائل تل العمارنة (151)، يكتب " أبي ملكي" حاكم صوري (صور) فيها للملك أمنحتب الرابع:
" لقد كتب الملك، سيدي إلي ما يأتي: اكتب لي عما سمعته عن بلاد كنعان، (أقول): لقد مات ملك بلاد دانونا وصار اخوه ملكا بعده، وبلاده تشهد السلام، النيران التهمت القصر الملكي في مدينة اوغاريت، لقد التهمت نصفه ونصفه (الآخر) لم يعد قائما. ولم تعد هناك قوات بلاد الحثيين".
وتجدر الإشارة أن المصادر السورية القديمة، مثل نقش " ادريمي" ملك آلالاخ، من أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، تذكر كنعان، التي هرب إليها الملك من وجه مغتصبي عرش أبيه ثم عودته الظفرة بعد ذلك. ومملكة آلالاخ هي مملكة سورية ازدهرت خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد في الشمال الغربي من سورية (قرب أنطاكية).
إضافة لورود التسمية في تقش البرازيل المكتشف في (ياؤيبيا) سنة 1974م، ويعتقد أنه يعود للقرن السادس قبل الميلاد ومما جاء فيه : " نحن أبناء كنعان من صيدا، بحارة وتجار، قدمنا على هذه السواحل البعيدة، بلد الجبال، ضحينا بشاب منا ل عليون ( الآلهة) في السنة السابعة لحيرام ملكنا العظيم الفذ...".
استعمل المصريون من عصر الدولة القديمة كلمة (فنخو) للدلالة على شعب كنعان، بينما اطلق البابليون لقب (كناحي أو كناخي) على سكانها. واستخدم الإغريق كلمة (فنخو) وحوروها إلى " فونيكس" للدلالة على فينيقيا.أما الرومان فاستخدموا تعبير (بوني) ويعني اللون الأحمر الأرجواني (مونيقي).
وبقيت التسمية مستخدمة حتى العصر الهيلنستي، فقد وجدت على عملة معدنية مسكوبة في بعض مدن الساحل السوري- الكنعاني. إضافة للمصادر الكلاسيكية المتأخرة ( تاريح هيرودت، بعض النصوص من شمال افريقيا).
كان مفهوم تسمية " بلاد كنعان" يشمل جميع المناطق الساحلية الشرقية للبحر المتوسط، بدءا من خليج اسكندرون (بلاد دنونا) إلى الشمال ، حتى غزة في الجنوب، وما يتصل بها من مناطق جنوب شرق فلسطين التاريخية، ويمكن بالاجمال القول أنها كانت تشمل اغلب مناطق بلاد الشام أو سوريا الطبيعية التي تشكل وحدة ثقافيةة وسياسية واحدة على أساس ممالك المدن.
بالرغم من ذكر أرض كنعان في العهد القديم (التوراة )، إلا أنه من الثابت أن التسمية هي أقدم من ذلك بمدة طويلة جدا.
مجدو: في حملته التي قام بها تحوتمس الثالث ( 1490-1436 ق.م) على بلاد الشام، يذكر نص منقوش على معبد الكرنك وصفا دقيقا لخط الحملة ومما جاء فيه:
" وصل الجيش المصري إلى مدينة "ياهيم" عند الطرف الجنوبي لجبل الكرمل...دخل مدينة "مجدو" وهناك جمع إليه أمراء كل البلاد الأجنبية التي كانت موالية لمصر....". وتُذكر غزة وشاروحين وتعتك في هذا النص، وتعنك هي بلدة تقع على مسافة خمسة اميال جنوب غرب مجدو تحت التل المعروف باسم تل تعنك.
ويوجد نص مصري آخر ، منقوش على مسلة تُغرف بمسلة "عرمات" نسبة إلى المكان الذي اكتشف فيه بمصر، يشير إلى حملة تحوتمس الثالث على مجدو. وحسب المراجع المتخصصة بتاريخ مصر القديم، شن تحتمس الثالث ست عشرة حملة على المدن الكنعانية والسورية، واستولى على أرض كنعان برمتها، وكان هناك حاميات مصرية لحفظ النظام فيها مركزها غزة، وبالرغم من الثورات الكثيرة على الحكم المصري والتي أخمدها الفرعون، يبدو أن عهد أخناتون شهد علاقات ودية مع الكنعانيين.
تقع مدينة مجدو القديمة تحت تل المستلم على بعد عشرين ميلا جنوب شرق حيفا، وكانت تعتبر من المواقع الإستراتيجية العامة.، وحسب الرواية التوراتية احتلها العبرانييون في زمن يشوع بن نون، قارن : ( يشوع 12: 21، يشوع 17: 11- 19، قضاة 4: 4:16-17، قضاة 5: 19)
رسالة تل العمارنة رقم 190/ من ملك اورشليم
وهي رسالة ارسلها ملك اورشليم الكنعانية الفلسطينية إلى الفرعون تحوتمس الرابع وهذا نصها:
" إلى الملك مولاي، هكذا يقول خادمك" عبدي هبة" ، انظر إلى ما فعله " ملك- ايلو" و " شوارداتا" بأراضي الملمك مولاي. لقد دفعوا بقوات "جازر"ومن "جت" ومن "كيله"، أخذوا أراضي " روبوتو" وأراضي الملك سُلمت إلى شعب " العابيرو"، حتى بلدة في أراضي ط أورشليم" من أملاك سيدي اسمها "بيت لحم" قد أعطىيت إلى "كيله"، فليصنع مليكي إلى خادمه "عبدي هبة" ويرسل قوات تعيد الأراضي الملكية إلى الملك، وإذا لم تصل القوات فإن أراضي الملك ستغدوا للعابيرو".
كيلة: لم يتم التعرف على مكانها بالتحديد
رونوتو: ربما مكان ما جنوب غربي موقع مجدو
جازر: مدينة كنعانية هامة، تقع على المنحدرات الغربية للسلسلة المركزية في فلسطين، وورد في العهد القديم الحديث عن جازر في : ( يشوع 16: 33 ، يشوع 16: 3، 11، 1. أخبار الأيام 6: 67 و 20: 4، القضاة 1: 29، 2.صموئيل 5: 25، 1.ملوك 9: 15-17.
جت: جنوب الساحل الفلسطيني، وذكرت في الكتاب المقدس في : 1. صموئيل 6: 17، 7: 14، 17: 4، 2.صموئيل 21: 15-22، يشوع 11:22، العدد 13: 33، التثنية 2: 10-11.
بيت شان:
بعد موت أخناتون، وفي عهد "ستي الأول" (1302-1290 ق.م) قام بحملة عسكرية وصلت إلى بيت شان، وفي موقع المدينة القديمة تم العثور على نصب تذكتري نقش عليه سيتي الأول أخبار إنتصاره، ومما جاء فيه:
" هو الذي ينفذ إلى جحافل الآشوريين ويجبرهم على الرضوخ، الذي يحطم أمراء "ريتنو" وتطال يده كل الخارجين عليه. في هذا اليوم، جاء من يخبره بأن العدو اللئيم في بلدة "حث"، قد جمع إليه العدد الغفير من الجنود، واستولى على " بيت شان"، ثم عقدوا حلفا من "باهيل" وهاجم قد حجزوا أمير "رحوب"عن الخروج، عند ذلك قام جلالته بإرسال جيش إلى بلدة حمث وآخر إلى بيت شان، وثالث إلى "ينوم"، وما إن انقضى النهار حتى هُزموا جميعا أمام عظمة جلالته ملك مصر العليا والسفلى"
بيت شان: تقع تحت "تل الحصن" قرب مدينة بيسان الحالية في فلسطين.
حمث: تل الجامة على بعد عشرة أميال جنوبي بيسان.
رحوب: ربما " تل الصارم"على بعد ثلاثة أميال جنوب بيسان.وفي العهد القديم (العدد 13: 21، 2.صموئي 10:6-8)، يشوع 19: 28-30، 1.أخبار 6: 75 )
ينوم: من المتوقع أنها تقع في "تل النعامة"شمال بحيرة الحولة. أ(يشوع 16:53)
عكا- شكيم- حاصور- بيت شان- رفح-غزة:
جاء في أحد النصوص الأدبية الفرعونية القديمة ويسمى رسالة " أمين-رام-أوبت"، وهو عبارة عن رسالة من أحد كتابتة القصر الملكي إلى موظف رسمي تحت التدريب، يتم اعداده للسفر مبعوثا إلى الخارج ذكرا لشكيم وحاصور، حمث، دجر إيل، وبيت شان:
" ...تعال إلى الطريق جنوبا نحو إقليم "عكا" إلى أن ينتهي الطريق الآتي من " أكشفا" إلى أي مدينة؟ أخبرني عن جبل طأوزير" كيف تبدو قمته؟ وعن جبل "شكيم" من أين يبدأ الكاتب رحلته إلى "حصور" ، وكيف هو مجراها ؟ ...أخبرني عن "رجوب" و " بيت شان" و " ترقا إيل "، عن نهر الأردن وكيف عبروه، وكيف الوصول إلى "مجدو".......ايه أيها الكاتب، أين كل تلك المدن؟ ورفح كيف تبدو أسرارها، وما المسافة بينها وبين " غزة"؟ ".
إكشف: يُعتقد أنها " تل كيسان" في وادي عكا جنوب الجليل.
حاصور: تحت " تل القدح" في وادي القدح إلى الشمال الشرقي من صفد. كانت عاصمة مملكة الكنعانيين في شمال فلسطين، ويُرجح أنها كانت المعقل الرئيسي للهكسوس.
رجوب: تل الصارم بعد ثلاثة أميال جنوب " بيت شان" (بيسان).
اورشليم: ورد اسمها في نصوص اللعنات المصرية، وهي نصوص تعود للقرن التاسع عشر قبل الميلاد وكانت تكتب خصيصا لكي تحل اللعنة على بعض الحكام أو الملوك المعادين للفرعون، تُسجل الأسماء على جرار من الفخار وتحطم بطريقة سحرية، من الأسماء الواردة في تلك النصوص:
- يقرب-آمو- حاكم اورشليم وجميع بطانته
- أبيش- حدد- وجميع بطانته
- يا بانو- حاكم أكشف- وجميع بطانته
- جنحي- حاكم حاصور- وجميع بطانته
- توري-آمون، حاكم عكا، وجميع بطانته
- ياتيب إيل، حاكم بيت شمس، وجميع بطانته
كما يرد اسم " اورشليم" في رسائل تل العمارنة، وفي العهد القديم بكثرة ( يشوع 15:63، قضاة 1: 21).
بيت شمس: في تل عين شمس غرب القدس
في باقي خطابات تل العمارنة المصرية، ترد أسماء لمدن فلسطينية منها :
رسالة رقم 232 ورسالة 233: زوراتا ملك عكا أو زاتاتا أو زيتاتا
رسالة رقم 242، 243، 244، 245، 246، 245: يرعديا ملك مجدو
رسالة 250 من شكيم (نابلس)
رسالة 252 : لابعيا ملك شكيم
رسالة 254: لا بيعنا ملك شكيم
ورسائل العمارنة، التي سبق ذكرها، تعتبر من المصدر الهامة، وتعود للمرحلة البابلية الوسيطه، وكتبت باللغة المسمارية الآكادية، وتوجد في المتحف المصري بالقاهرة (عبارة عن رُقم أو ألواح طينية) وفي متاحف عالمية عديدة مثل برلين، لندن، اكسقورد، اللوفر في باريس، نيويورك.وعلى الرغم من استخدام اللغة الكنعانية في فلسطي، إلا أن الرسائل التي وردت منها (من ارض كنعان) كانت مكتوبة باللغة الآكادية - وهذا دليل على إنتشار استخدام الكتابة المسمارية التي أبدعها السومريون أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، وطورها الآكاديون- على نطاق واسع في الشرق القديم حتى القرن الأول للميلاد.
-------
مراجع:
- د.فاروق إسماعيل، مراسلات العمارنة الدولية، ط1، دمشق، 2018.
- فراس السواح، الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، دار علاء الدين، ط 3، دمشق، 1979.
- خزعل الماجدي، الآلهة الكنعانية، دار الأزمنة، ط 1، عمان، 1991.
- د.سليم حسن، موسوعة مصر القديمة، مؤسسة هنداوي، الجزء الخامس، 2019.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com