تعكر الجو منذ بداية هذا اليوم، عندما كان احمد في طريقه الى عيادته، اعتراه شعور من القنوط والتهيب الذي لم يعرف له سببا. حاول ان يعود بذاكرته الى اللحظة التي فتح فيها عينيه هذا الصباح ... عله يجد جوابا لما يعتريه الآن وهو يقود سيارته.
ساعة استيقاظه هي نفس ساعة الاستيقاظ المعتادة منذ فتح عيادته ... حتى ايام الراحة يستيقظ تقريبا في نفس الوقت، مع فارق بسيط انه يتأخر في قلع البيجاما، الا إذا طلب لعيادة مريض ما .. ولكن منظر الشوارع المألوفة والمعروفة له منذ نعومة اظفاره يجعله قانطا ومتهيبا من شيء مجهول.
اغتسل وارتدى ملابسه. زوجته واصلت النوم كعادتها. سخن الماء، اعد كوب شاي بالنعنع، ارتشف ببطء وهو يسمع نشرة الأخبار، رطب وجنتيه وعنقه ببعض الكولونيا. شد ربطة عنقه، تناول حقيبته وخرج وزوجته لا تزال تغط بالنوم، تفاصيل روتينية يكررها كل يوم. اذن ما الباعث لشعور القنوط والتهيب ؟!
شغل محرك السيارة لعدة دقائق .. ثم انطلق في الاتجاه المعتاد الذي الفته عيناه.
document.BridIframeBurst=true;
var _bos = _bos||[]; _bos.push({ "p": "Brid_26338945", "obj": {"id":"19338","width":"100%","height":"320"} });******
الأحداث في القطاع انفجت من جديد. عدد مجهول من القتلى وعشرات الجرحى. هذا ما فهمه احمد من المكالمة التلفونية، حيث طلبوه في المستشفى للمساعدة. هذا الطلب بحد ذاته يشير الى العدد الكبير من الاصابات الصعبة.
بعد ذلك فهم الحادث بالتفصيل، "بداية" الحادث ان دورية عسكرية اعترضت مجموعة من التلاميذ المتوجهين للمدرسة، وامروهم بالتفرق وعدم السير الجماعي نحو المدرسة. ويبدو ان التلاميذ لم يبلعوا هذا الاستفزاز هذه المرة. فالتراكم يولد الانفجار، هذا مفهوم، احمد نفسه كاد ينفجر مرات امام الحواجز. ولكنه يبلعها في اللحظة الاخيرة، المؤكد ان التلاميذ لا يملكون ضوابط كالكبار. والمؤكد ايضا ان الانفجار سببه ليس الاستفزاز الوقح الجديد... انما هي سلسلة متواصلة من الاهانات اليومية المتكررة .. ان تعيش تحت طقطقة الاعقاب الوحشية، ان تعيش طفولتك وشبابك امام حواجز الجند ونظراتهم الحاقدة .. ان تعيش كل يوم في انتظار الفرج الذي لا يبدو انه قريب .. ان تعيش حالما بالفرح الانساني، بينما واقعك مليء بالترقب لرصاصة من فوهة بندقية يحملها جندي ما، كل ذلك يتجمع لينفجر في لحظة ما بعنفوان لا ضابط له. ربما قاعدة الحياة صارت تختلف. ساعات الهدوء في القطاع والضفة هو الشذوذ .. بينما الانفجار يكاد يتحول الى قاعدة.
هذه الافكار راودت احمد خلال توجهه السريع الى المستشفى. كانت تتنازعه شتى المشاعر والاحاسيس، ويحاول ان يضعها في إطار منطقي. كثير من المسائل لا يستطيع قبولها اي منطق. مثلا مسألة القتل اليومي .. القتل بمفهومه المباشر.. ان يطلق جندي ما رصاصة فيسقط فلسطيني. او القتل بمفهومه الانساني، باستمرار الوضع القائم. الحياة تحت اعقاب البنادق وتحت احذية الجنود، ومواجهة عملية الاذلال والبطش اليومي ؟!القتل بمعناه المباشر قد يبدو أكثر انسانية من مواصلة الحياة تحت حراب الجند واحذيتهم. القتل يعني نهاية المعاناة.
هل تكون عملية تخليص شعب من معاناته، بقتله، بتصفيته جسديا ؟!
قد تبدو هذه الفكرة انسانية في هذا الزمن الرديء، "ام الزمن العربي لوحده الرديء في هذا العصر؟!" سأل نفسه واستطرد مفكرا:
- الدول العربية لا تحرك ساكنا لفضح الواقع المأساوي لشعب صار القتل حادثا يوميا في حياته .. حتى رد فعل بسيط معدوم، مع انهم يدعون ان فلسطين قضيتهم الاولى ؟!
شيء يثور في اعماقه، يتمرد، يتضخم ويكاد ينفجر. صراخ غاضب يشعر به محبوسا في صدره. يهزه من الداخل فيضغط على نفسه ويضغط. وتشده افكاره مرة اخرى:
- يجب ان لا نسمح بتحويل قتلنا الى عادة .. الى روتين يومي. الدول العربية. لتذهب الى الجحيم .. انها لا تفعل سوى ان تهتم بدعم مجموعة من زلمها .. ان تكون من جماعة دولة ما لذلك ثمن تقبضه، حتى الدين صار له ثمن. ان تطلق لحيتك، وتتبع فئة معينة، لذلك اجرة معينة، ليس عند ربك، بل فئة لها مصلحة في ابتعادك عن مشاكل مجتمعك. صرنا نعيش في جحيم التفاهات، وهي للحقيقة تتلاءم مع زمن تسيطر عليه قيم واخلاق التفكير الاقطاعي، ومثل ورموز عصر النفط، الا الفلسطيني ... لا ثمن له. الانسان لا ثمن له !!
هل يفقد ثقته ؟!
كان منطلقا بسيارته نحو المستشفى يعبر الشوارع شبه الفارغة الا من بقايا الحجارة المقذوفة ... وهنا وهناك لا تزال المناوشات مشتعلة. ودوريات تزعق في شتى الاتجاهات. والرصاص يعوي كالكلب. تارة يشتد عواؤه وتارة يخفت. والدخان يتعالى من عدة نقاط في المدينة المتمردة...
ربما هذا التمرد هو ما يعطي لهذا الشعب هذه القدرة على الاستمرار وتحدي المعاناة. المعاناة قد تكون سببا للقنوط، الواقع المأساوي قد يكون سببا للقنوط، انتظار ما هو اسوأ هو سبب اكيد للقنوط .. ومن المؤكد ان الانفجار يحمل في طياته الرفض للتفاهات التي نمارسها دون اقتناع ... نمارسها لأجل الثمن المدفوع.
يثلج الصدر ويخفف الواقع الاجتماعي ان الأجيال الجديدة تواصل التحدي، رغم الليل الذي يحيكه من حولهم بعض ذوي القربى والأعداء، رغم تباين المواقع، يواصلون التحدي في الشوارع، رغم الجند المدججين بالسلاح .. يواصلون التحدي في الشوارع .. ويرفضون الصمت على مضاضة. يؤلمهم الصمت الرسمي للأشقاء العرب. ولا ينتظرون حسنة من أحد. يدفعون دمهم ثمنا لصمودهم. استمرار الهيجان يخفف من عبئ القنوط .. يتخيل الجثث الشابة المقتولة .. والاجساد المشوهة .. فيزداد احمد قنوطا والما داخليا.
امام الحاجز لم تنفع اشارة الطبيب الملصقة على السيارة ... انزلوه واجروا عليه تفتيشا وفحصا لأوراقه وسيارته، بحثوا عن اسلحة يحملها، ربما حجارة. فتحوا حقيبته الطبية وأفرغوا محتوياتها على مقعد سيارته ..وجسوها بتأني خوفا من اخفاء حجر او ربما تعويذة مضادة للاحتلال. اصوات طلقات غزيرة .. وبعض الحجارة تكاد تصل للحاجز من الشوارع المحاذية ..ومع زخات الحجارة يرعد اسم فلسطين بآلاف الحناجر .. مئات البالونات لونت بأعلام فلسطين طيرت في الفضاء .. اثارت عصبية الجنود فأمطروها بعشرات الطلقات. ولكن السماء تمتلئ بأعداد متزايدة من البالونات الملونة بلون العلم الفلسطيني. لأول مرة منذ هذا الصباح يتحرر من قنوطه. كم يود ان يقذف حجرا، ان يركض مع الاف الشباب .. وان يجهده العرق .. وان يطير بالونا ملونا بالعلم الفلسطيني، وان يصرخ بأعلى صوته باسم فلسطين. يتلذذ وهو يسمع الصدى الرهيب لتساقط الحجارة واصوات الطلقات وصرخات الجنود المتفاجئين من هذا المطر المؤذي ... ينظر نحو الضابط ذو الاصابع المنتفخة .. الذي يلوك سيجارته بحقد، ونظراته تحمل الكراهية خلقة ... ويتهادى في مشيته كأبطال الكاو بوي الامريكيين... ويكز على اسنانه مع كل زخة فلسطين يطلقها الشباب مع رشقات الحجارة. أجل لماذا القنوط ؟!حبس ضحكة كادت تفلت منه عندما اعترته رغبة مجنونة ان يمد ذراعه اليمنى مبرزا اصبعه الاوسط نحو وجه الضابط ... وليكن ما يكون، ولكنه زجر رغبته الطبيعية، واكتفى ان يتزود من وجه الضابط المضحك المثار كلما دوى اسم فلسطين، اقوى من الرصاص والعساكر ...
استغرق تفتيشه على الحاجز لدقائق قليلة ولكنها متوترة قاسية. وربما لأول مرة يعتريه شعور الفرح الممزوج بالرهبة قليلا. احساس من القوة يتسرب اليه، وتأخذه افكاره بعيدا ... قال لنفسه:
- نحن اقوى منهم ,,, هذا لا شك فيه ...ان تواجه قاهري كل العرب ببعض التلاميذ، وبعناد لا يعرف نهاية ولا رادع، وبإصرار على الحق لا يهتز ...
- سع ( سر بالعبرية )
أمره عسكري، فانتشله من افكاره. اراد ان يقول " تودا رباه" (شكرا) كما تعود ان يكون لطيفا، وهو يعرف انه يقولها مجبورا مقهورا ...ولكن لسبب ما بدت له هذه المرة قذارة لا يستطيع التفوه بها .. وهو في مثل هذا الموقف. هل يشكرهم لأنهم احتلوا وطنه ؟!هل يشكرهم لأنهم شردوا شعبه ؟! هل يشكرهم لأنهم يقتلون شعبه منذ اربعين عاما ؟! هل يشكرهم لأنهم يحولون حياة من بقي في الوطن من شعبه الى جحيم ؟! وهل وهل عشرات الأسئلة تنهال عليه ... ينظر إليهم نظرة كراهية، شاعرا انه جزء من الشباب الذين يواجهون عساكر الاحتلال بالحجارة والاعلام الطائرة، وبدوي اسم فلسطين الرهيب الوقع على اسماعهم، والأقوى من كل جبروت الاحتلال المرئية والمخفية.
لا، لن يخيفوا شعبا يتمسك بوطنه!
شغل موتور السيارة .. القى نظرة على الكاو بوي الثخين، ذي النظرة التي تحمل الكراهية خلقة .. وبدأ يتحرك نحو الامام .. حين اجفلته ضربة الحجارة.. واصوات طلقات نارية وقنابل غاز .. فتحول الحاجز الى حيص بيص .. والارض امتلأت بالحجارة وزجاج القناني .. وبزجاج سيارته والسيارات العسكرية. تسمر في مكانه ظانا للوهلة الاولى ان عساكر الحاجز يهاجمونه ...التفت بشيء من الخوف نحو العساكر، فشاهد الكاو بوي منبطحا في منتصف الشارع ينزف دما، ويكاد يكون بلا حراك ...احتار ان ينطلق بسيارته مبتعدا ام يقدم مساعدة ما لهذا الملقى بلا حول ينزف دما. كان زجاج سيارته الخلفي قد تطم تماما، وتركت الحجارة معالمها الواضحة على جسم السيارة. واستمر احمد في حيرته:
- هل اسعف ذلك الكاو بوي الثخين ؟!
تردد مرة اخرى هذا السؤال، ورد على نفسه:
- انه عدو حاقد..
- انه مجرد انسان ينزف ..
- أنت ضعيف امام منظر الدم البشري ؟
- اكرهه كعدو .. لا جدال في ذلك، ولكنه ينزف؟
- ليذهب الى الجحيم .
- ليس ذنبه انه وحش .. مساعدة انسانية قد تغيره.
- وهل يتحول الذئب الى شاه ؟
- لا تخلط.
- التلاميذ الجرحى بالشوارع ..الدم المسفوك في المخيمات ..احذيتهم التي تدوس كرامتنا كل يوم .. اطفالنا المقتولون بلا رحمة.
- الوقت لا يسمح بالجدال .. أسعفه ثم نرى.
- هل كانوا هم يسعفوني لو كنت انا المصاب ؟
- انت طبيب والطب مهنة انسانية!
- ولكني فلسطيني .. والحديث هنا عن عدو ..وليس مجرد عدو ..اربعون عاما ونحن نعاني مرارة الضياع والتشرد، وما زلنا !!
- كفى كفى !! سنعالج قضية فلسطين فيما بعد، انه ينزف ولا تنسى انه بشر مثلنا ..انسان !!
- انسان.. ؟ كم يضحكني هذا الوصف.
- الوقت لا يسمح للسخرية ..أنقذ الانسان الذي فيه.
- لو كان فيه بقية انسان لرفض الاحتلال . لرفض ان يمارس العنف ضد شعب مشرد اعزل؟
- ليس ذنبه...
- وهل ذنبنا اننا نطالب بحقنا ؟
- لا تفقد انسانيتك ..تذكر ان قوتنا في انسانيتنا.
- أعرف .. ولكني لا أستطيع ان أنسي انه عدو شرس، لا يرحمنا، وما يحدث الان يثبت ما اقول.
- انت طبيب وهو مجرد جندي مأمور..
- بأي وجه سألقى زوجتي ..بأي يدين سأرفع ابني ..ماذا اقول لجيراني ..ماذا اقول لمن ثكلوا عزيزا عليهم .. ؟
- انسانيتنا هي قوتنا ، اذا فقدناها فقدنا مبرر وجودنا، فقدنا مبرر دولتنا .
- وهل يصح لهم ما لا يصح لنا ؟
- لا تأخذ القطيع بجريرة الراعي .
- الانسانية الزائدة تتحول الى هبل !
- نتجادل فيما بعد .. انت طبيب، وهو ملقى ينزف دما، لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الالام.
- اعرف ذلك .. واعرف أكثر انه عدو لا يرحم. يضحكه لون دمي. جراحي تزيد شراسته. عذابي يثير هزئه، وفلسطينيتي تثير أدني مشاعر السادية في نفسه.
- الجدال الان عقيم .. تبقى حقيقة واحدة كبيرة، لن نسمح لاحد ان يسرق منا انسانيتنا .. واثبت ذلك الان .. أسعفه !!
فتح احمد باب سيارته، ونظر الى الكاو بوي الثخين الملقى بلا حركة منذ لحظات، كانت الاف العوامل المتناقضة تصطرع في نفسه، تحرك مكرها نحو الانسان الملقى .. فحصه فحصا سريعا، وفوجئ ان نبضه غير محسوس.
دوي الرصاص في اذنيه والحجارة تتساقط حوله، وهو يجري تنفسا اصطناعيا للضابط الملقى .. انسان .. عدو .. تشربت المفاهيم في دماغه، ولم يعد يفكر الا بأنه يواجه صراعا ضد الموت، وعليه ان ينتصر للحياة ضد الموت، كان يضغط عدة ضغطات قوية على صدر الضابط. ثم يعطيه نفسا من الفم للفم. ويعاود الضغط الرتيب، واعطاء النفس، والجنود حوله يطلقون النار بلا وازع. وهو، حين تعاوده الافكار يشعر بالحيرة، او الضياع في حيرته ومتناقضاته. لا يعرف. هل يعبر بذلك عن انسانيته؟ ام عن هزيمته كانسان؟ ويكاد يتيقن انه يواجه انشطارا في شخصيته، بين فلسطينيته ومهنته. لأول مرة يعتريه شعور القرف من مهنته. لماذا يسمونها مهنة انسانية؟ هل ما يقوم به هو عمل انساني؟ ام هزيمة انسانية؟ ومع ذلك يقاتل لإعادة النبض والحياة لهذا الضابط ذي النظرات الحاقدة خلقة. يرتسم في خياله ابنه، يحاول ان يرفعه بيديه فيهرب الطفل رافضا اليدين اللتين انقذتا عدوا. حتى زوجته الهادئة ترفض ان يضمها بذراعيه. يشعر بدمعتين في مقلتيه. يواصل الضغط بعناد، محاولا التخلص من افكاره، مبتعدا عن مشاعره المتضاربة، متناسيا تناقضاته وعذاباته. انه يساعد عدوا بينما عشرات ابناء شعبه ملقون ينزفون دما. ليس الان وقت هذه الافكار. ونبض الضابط لا يتحسن. يواصل الضغط الرتيب على الصدر واعطاء التنفس فما لفم. يفحص حدقتي العينين، ويواصل القتال ضد الموت. كم تمنى قبل لحظات ان يمد كفه بأصبعه الاوسط في وجه الضابط الملقى الآن بلا حول .. وها هو يقاتل لإعادته للحياة، ماذا يقول لجارته التي فقدت ابنها قبل اسبوعين؟ ماذا يقول لزملائه ومعارفه؟ هل يفتخر انه أنقذ عدوا؟
شيء من الهدوء ساد حوله، وركض نحوه أحد الجنود مستفسرا ان كان يستطيع ان يساعده بشيء. طلب منه شيئا مرتفعا ليضعه تحت الرقبة .. وما هي الا لحظات حتى كانت بطانية مطوية تضع وراء رقبة الضابط .. ليتدلى رأسه الى الخلف أكثر .. واصل احمد الضغط الرتيب بعناد اشد شالا كل صراعاته الفكرية مع نفسه، طاردا التخيلات المقلقة، مجهدا نفسه بعناد لإعادة التنفس الى الشخص المسجى على الاسفلت. لا يعرف كم استغرقه من وقت، لكنه كان في منتهى درجات الاجهاد .. ولا يستطيع ان يحكم على نتيجة تصرفه ... ويعرف تماما انه سيتعذب ويتصارع مع نفسه، وصلت سيارة اسعاف عسكرية، فشكروه، يا للمهزلة، يشكرونه على امر هو نفسه لا يستطيع إدراك صوابه، شعر ان القنوط يعاوده من جديد، يحاول ان يطمئن نفسه، فلا يدري كيف يطمئنها .. فتعاوده الافكار المتباينة .. فلا يكتشف الا وهو في المستشفى. فيغرق في عمله مكتشفا ان الاجهاد والارهاق أفضل طرقة لراحة الدماغ.
******
تلك الحادثة عذبته.. فخبر ما فعله مع الضابط قد انتشر، صحيح ان ابنه وزوجته بقيا على نفس الحب والتعلق، حتى جارته الثاكل تبتسم له وتتمنى له كل خير. ينظر بوجوه الناس، فلا يجد الملامة، انما الحب الذي تعود عليه، لشد ما كان يجهل حقيقة شعبه، ولشد ما يزداد حبه لهذا الشعب. ان تكون طيبا لهذه الدرجة، ان تكون متسامحا لهذا الحد، ربما في ذلك بعض التهلكة. ربما سبب ضياعنا كل هذا العمر .... أو يكون سبب تحكم الارذال برقابنا، ناتج عن طيبتنا وتسامحنا؟ الحرب خدعة ولكنهم يلعبونها واضحة كضوء الشمس في الظهيرة.
ايام واحداث كثيرة مضت، والهدوء في السنة الاخيرة بات شبه نادر. ولكن شعبه يواصل الحياة بعناد، والنساء يواصلن الانجاب، والشوارع ملآى بالصغار، والشهداء يكرمون بشتى الوسائل، اسماؤهم تطلق على الخلق الجديد، والأزقة تسمى بأسمائهم، والمواقع تسمى بأسمائهم، عالم كامل ولد ويولد عبر الصمود. قيم جديدة تصارع العفونة المترسبة. تصارع الضياع. تصارع من يدفع ثمنا للقيم البشرية ...
ولكن احمد رغم ما مر عليه لا يستطيع ان يضع ما فعله في إطار واضح مقبول. بقي شيء غريب يستفزه كلما اختلى الى نفسه من مشاغله. يستفزه ويعيده الى صراعاته الفكرية. يحاول ان يفلسف تصرفه اعتمادا على تقبل الناس. ولكن شيئا يتمرد في داخله ويرفض. عندما يقرر بينه وبين نفسه انه أخطأ، تثور في نفسه عوامل مضادة تثبت له انه تصرف كطبيب وانسان. ما كان من المعقول ان يتخلى عن انسانيته. يلتبس عليه الموقف ويؤرقه .. ربما دافعا مجهولا اورده هذا الموقف؟ يعاود محاورة نفسه .. ثم يغرق بالعمل.
صار يكثر من التأمل والتفكير، ولا ينسى حادثته الا احيانا، خاصة عندما يغرق بملاعبة ابنه الصغير .. ضحكات الطفل العذبة تنسيه صراعاته الفكرية. ترى هل عند الضابط ارتباطات عائلية مثله؟ هل له طفل كهذا، يضحك بعذوبة، ويدخل السعادة لصدر والديه؟ وهل تبقى الكراهية في نظرات الضابط وهو يلاعب طفله ؟!
في عصر أحد الايام انطلق احمد ترافقه زوجته في طريق العودة الى البيت، يحملان بالسيارة العاب وحلويات، فاليوم عيد ميلاد الصغير .. لذا أنهي احمد عمله باكرا، ورافق زوجته للتبضع، وها هما الآن في طريق العودة الى البيت. يستمع احمد من زوجته لنوادر الصغير، ويبتسم ناسيا ما يعذبه من افكار، سارحا في عالم الطفولة الجميل، وزوجته اللبقة، وصاحبه الخيال الواسع، تعرف كيف تنقل له الحديث بتفاصيله، بحيث يبدو وكأنه يحدث الان امامه.
اقتربوا من أحد الحواجز العسكرية المنتشرة كالسرطان في الشوارع. فلمح ضابطا اثار انتباهه. وسرعان ما اكتشف انه الضابط نفسه، الكاو بوي المنتفخ، ذو النظرات التي تحمل الكراهية خلقة.
تسمرت عيناه فوق وجهه .. اكيد هو، نظراته لم تتغير، السيجارة يلوكها، واسنانه صفراء. لا يعرف ان كان يسعده ذلك ام يخجله. الضابط يتجاهل نظراته، ويعطي اشارة السماح بالمرور دون تفتيش، يبدو انه اعتراف بالجميل. ولكنه جميل مرفوض. يريد ان يفتشوه كما يفتشوا غيره. يرفض هذا الشكر والاعتراف بالجميل. لم ينقذه لأنه ضابط، بل لأنه انسان. آه، ما أسخف هذا التعبير احيانا. أصر العسكري عليه ان يواصل السير. اعترته للحظة فكرة مضحكة في غرابتها. يطلقون عليه النار، ويعلن الناطق العسكري ان سيارة رفضت الامتثال للأمر بالتوقف عند الحاجز .. فأطلقت عليها النار !! هل يمكن ان يكون الاعتراف بالجميل بمثل هذا الشكل الحاقد؟ عقله يعجز عن تصور ذلك. القى نظرة اخرى عبر المرآة على الضابط، فشاهد كرشه الممتلئ والمدكوك داخل البنطال العسكري عنوة. واصل ابتعاده عن الحاجز وهو يوضح لزوجته ان الضابط اياه هو نفس الضابط الذي أسعفه وأنقذه من موت مؤكد. وحاول ان يعترف امامها بحقيقة ما يتنازعه من مشاعر وافكار حول تصرفه. لقد صدمته رؤية الضابط وأطارت من رأسه نشوة الحديث عن الصغير ونوادره، ووجد نفسه مضطرا ان يوضح لأقرب الناس اليه حقيقة مشاعره مما حدث ... عله بذلك يتخلص مرة والى الأبد من عذابه وتناقض مشاعره وضغط افكاره. فجأة اهتز كل جسده .. ارتعد من اصوات طلقات حادة تخترق زجاج سيارته، داس على الفرامل هاربا في الوقت نفسه لأقصى اليمين، ملتفتا في الوقت نفسه نحو مصدر النار. كان الضابط اياه يقف امام الحاجز، شاهرا مسدسه ومنظره يوحي بالوحشية .. اثار انتباهه عدم رد فعل زوجته لما يحدث .. ربما أطلقت في بداية الحدث صوتا ما .. لا يذكر .. التفت اليها وصعق .. توسعت حدقتي عينيه لمرأى الدم المتفجر من رأس زوجته ... تنازعته شتى صنوف الألم والحقد، يرفع ابنه الصغير بين يديه، فيبصق الصغير بوجهه. يحاول ان يضم زوجته فيصده دمها التفجر ...يبحث عن صوته ليطلق صرخة، فلا يخرج من فمه الا لهاث متقطع، تنخرس الكلمات، وطفله يركض وراء نعش ينادي بأعلى صوته: "ماما ". لغم ينفجر بالصغير فيرتقع عمود دخان .. وحين يأخذ صوت الانفجار والدخان بالتلاشي .. يبحث عن طفله فلا يجد الا بقايا قدم بحذاء طفولي ممزق. يرتمي عاجزا فوق مقود السيارة، متخبطا في موقفه .. يخبط رأسه بالمقود حتى يشعر بالألم والدم يتفجر من رأسه ..ينظر نحو زوجته المقتولة.. وفجأة يعود اليه صوته فيصرخ بأقوى ما يستطيع ... يشغل موتور السيارة، ويأخذ المقود الى اقصى اليسار. ينطلق بسيارته مشتت الذهن ودمه يسح على وجهه. نظراته مسمرة نحو الحاجز. والألم يكاد يمزقه من الداخل. والضابط الكاو بوي امامه. صلعته امامه. صدى الاصوات تتكرر في ذهنه. ساق في حذاء ممزق. طفله يضحك. ومع ضحكاته يتدفق الدم. تعابير عقيمة تتصارع في ذهنه. زوجته لا تزال تبتسم. وكأنما تقول له هذا ما جنيته علي. يضغط برجله على دواسة الوقود. حتى يجعلها تلامس ارضية السيارة. يديه تتسمران فوق المقود. ونظراته تتمغنط فوق صلعة الضابط. الكاو بوي الذي يلوك سجائره. النظرات التي تحمل الكراهية خلقة.
عنوان: اختبار طريقة اختبار الشارع P.O. 60009 دولور / ألاسكا
الخامس +1 234 56 78
فاكس: +1 876 54 32
البريد الإلكتروني: amp@mobius.studio