-1-
قبل ما يزيد عن أربع سنوات، عدة أشهر بعد وفاة ياسر عرفات، انتشرت شائعات بصدد قيام إسرائيل بتسميم عرفات، وفي حينه كان هنالك من حذروا، وكنت من بينهم، أنه بعدم وجود أدلة دامغة تثبت هذا الاتهام، فمن الضروري الكف عن ذلك، ليس دفاعًا عن إسرائيل، ففي جعبة حكومة إسرائيل ترسانة من الجرائم المثبتة ضد الشعب الفلسطيني، ولذلك فهي، أولاً، ليست "بحاجة" لاتهام آخر، غير مدعوم بالبراهين، قد يقلل من مصداقية الاتهام.. وثانيًا، والأهم، أن هذا الاتهام، غير المدعم بالبراهين، هو ككرة الثلج، لا يعرف أحد أين ينتهي به المطاف.
نظرية المؤامرة هي نظرية قديمة، وفي العصر الحاضر ما زالت المكتبات تشهد سيلاً من النظريات حول مقتل كندي قبل حوالي 50 عامًا، وفي حينه عندما فارقنا عبد الناصر، انتشرت شائعات وكأن عبد الناصر قتل من قبل جهات أجنبية بواسطة السم.. وعملية اغتيال رابين، لم تخرج عن هذا العرف، الذي أصبح ملازمًا لكل موت زعيم، إذا تم ذلك بظروف طبيعية أو غير طبيعية، ويظهر أن الحضور الطاغي للزعماء بهذه القامات الشاهقة، من الصعب على الناس تقبل غيابها، إلا إذا كان وراء ذلك مؤامرة.
-2-
document.BridIframeBurst=true;
var _bos = _bos||[]; _bos.push({ "p": "Brid_26338945", "obj": {"id":"19338","width":"100%","height":"320"} });وبالنسبة لنا فإن نظرية المؤامرة غالبًا ما تقترن بالخيانة، فهاجس التحسب من الخيانة، هو هاجس قديم، وهو بعمر سنوات النكبة وربما بعمر ثورة ال36، عندما ركن شعبنا لوعود الأنظمة العربية بشأن نوايا "صديقتنا" بريطانيا، والحقيقة أنه حتى في ذلك الحين فإن اصطلاح "الخيانة" لم يكن الاصطلاح المناسب لوصف ما جرى، فقد كانت لهذه الأنظمة حسابات تساوقت مع المشروع الصهيوني، ونظرة فاحصة للأمور حتى في ذلك العهد، وحتى من خلال تصريحات القيادات نفسها، كان ستوصلنا للحقيقة أن موقف هذه الأنظمة سيكون بالضرورة مناوئاً لأماني الشعب الفلسطيني، فهل يمكن لنا أن نأتمن القط على جرة اللبن وفيما بعد أن نشتكي من خيانة القط..
ولذلك في السطر الأخير، لم تكمن مصيبة الشعب الفلسطيني في الخيانة الداخلية، فأصل مشكلته أنه راهن على أنظمة، كان من واجبه أن يدرك خطورة الرهان عليها أو الركون لوعودها.. بالتأكيد كانت لدينا قيادات ينقصها الوعي أو القدرة على سبر غور الأحداث والمؤامرات، ولكن الخونة كانوا قلائل، مقارنة مع أي حركة تحرر أخرى..
فيما بعد، كان ذلك دور الحكم العسكري، الذي حاول بكل قواه تنمية هذه "النبتة" السامة في مجتمعنا، من أجل دمغنا بالنعت البشع، "شعب من الوشاة"؛ الكل يشي بالكل، الأخ يشي بأخيه، والأب بابنه والمعلم يشي بطالبه. وارتفعت الأصوات لدينا محذّرة من أن "الحيطان إلها دينين"، وكانت أساليب السلطة رهيبة، في الحصول على معلومات حميمة من خلال شبكة الوشاة التي أقامتها: من تزوج من، ومن زعلت من زوجها، ومن خاصم أخيه.. "وكله مسجل"، وكان يقول لك رجل "شين بيت"، بضحكته الصفراء المقززة، "إحنا عارفين عنك كل إشي.."، ويدخلون الرعب في قلوب الناس أن حياتهم وعلاقاتهم صفحة مكشوفة، أمام "الرجل الكبير"، كما قال عنه إميل حبيبي في "المتشائل".. وأقنعونا بذلك، بأننا شعب من الوشاة، ونحن لسنا كذلك.. أقنعونا وأقنعنا أنفسنا..
-3-
أعود إلى جذور هذه الظاهرة لنكتشف إلى أي منحدر ينحدر بنا أولئك الذين يطلقون نظرية المؤامرة، التي بدأت باتهام إسرائيل باغتيال عرفات، وتنتهي اليوم، هكذا، بدمغ قيادة الشعب الفلسطيني. وتصبح مسألة من اغتال عرفات جزءًا، أو قمة، في سجال سياسي في قيادة فتح.
هذا الاتهام، والانشغال به، بهذه المستويات، هو أمر ممض، ويضع الشعب الفلسطيني في خانة أولئك الذين ليس بمقدورهم إدارة شؤونهم، وبالتالي بفقدان القدرة على إقامة دولة، فكيف يُقتل زعيم هذا الشعب، حسب نظرية المؤامرة، بين أقرب مقربيه؟ لأنه حتى لو كان السم إسرائيليًا فاليد التي قدمتها فلسطينية، وحتى لو كان السم فلسطينياً مناوئًا فالشخص الذي قدمه له هو بالضبط من وثق عرفات به حتى النهاية، وبالتالي، ستنعدم الثقة، فهل انحدرنا، وكما قال مظفر النواب، إلى "ظلمة قبو لا تأمن فيه العقرب صاحبها"، لسنا عقارب، وبيتنا يقربه كل أنصار التحرر في العالم، فلماذا الإصرار على زج الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة في هذا القبو المظلم بدل الانطلاق إلى الفضاء الرحب، فضاء العمل المثابر لتحقيق أماني الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال؟
جيد تفعل قيادة الشعب الفلسطيني وأوساطها الشعبية والإعلامية، بأن تكف عن الانشغال في هذه القضية، لأنه لن ينوبنا من ذلك سوى الرائحة المقززة، كحال من يخوض، حتى الرقبة، في المياه الآسنة، فهذا الخوض العاقر، على أقل تعبير، مسيء أولاً وقبل كل شيء للشعب الفلسطيني، مسيء لعرفات نفسه، ويشوه صورتنا أمام العالم.
لقد جسد ياسر عرفات، بتاريخه المجيد، الوحدة الفلسطينية التي تتسع الجميع. وإذا كان هنالك من يحاول ان يجعل من موته معولاً لتهديم الوحدة الوطنية، فهذا الشعب الذي أحب عرفات لن يسمح بزجه في ظلمة أي قبو كان.
عنوان: اختبار طريقة اختبار الشارع P.O. 60009 دولور / ألاسكا
الخامس +1 234 56 78
فاكس: +1 876 54 32
البريد الإلكتروني: amp@mobius.studio