* تروي: "في صيف 1948 وصلت العصابات إلى قرية بيت عفا عند الواحدة صباحًا، وبدأوا في تقتيل الناس"* اليوم أبناؤها الأربعة في السجون الإسرائيلية وهي تقود حملة من أجل الأسرى
تقضي الحاجة هندومة راشد النجار-وشاح أغلب وقتها في مزرعتها ممارسة لـ"حبها الموروث للأرض"، وتقول: "أنا لا أعرف سنة ميلادي تحديدًا، ولكنني ولدت منذ نحو 78 عامًا في فلسطين".جلست الحاجة هندومة راشد النجار في الفناء المطل على حديقتها الكبيرة تتذكر قصة حياتها المليئة بالأحداث. كانت تضع على رأسها منديلها الأبيض الكبير وتلفه من أسفل ذقنها. "أنا فلسطينية من قرية بيت عفا"، هكذا افتتحت حديثها للمركز الميداني للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، وأردفت قائلة: "لقد كانت قرية جميلة وكانت حياتنا فيها هانئة. كانت تجاورنا مستوطنة يهودية صغيرة اسمها نيغبا وكانت تربطنا بأهلها اليهود علاقات طيبة وحميمة. في أفراحنا، كنا ندعو جيراننا اليهود الذين اعتادوا أن يلبوا الدعوة. فكانت جاراتنا اليهوديات يأتين وكنا نؤدي رقصة الدبكة معًا. وكان مختار المستوطنة الذي كان يدعى ميخائيل يصل إلى العرس ومعه ذبيحة نطبخها ونأكلها معا".
كانت بيت عفا التي تقع جنوب البلاد، على بعد 29 كلم إلى الشمال الشرقي من غزة، قرية يأهلها حوالي 500 نسمة. وكان معظم سكانها القرويون يشتغلون في الزراعة، ولكن حتى أولئك الذين لم يعملوا في الزراعة "كانت تربطهم علاقة وثيقة بالأرض"، هكذا قالت الحاجة هندومة. كغيرها من العديد من النساء الفلسطينيات، تزوجت الحاجة هندومة في سن مبكرة. وكانت تعيش في قريتها بيت عفا مع زوجها بهدوء وهناء. ولكن في عام 1948، بعد جلاء الانتداب البريطاني عن فلسطين والإعلان عن دولة إسرائيل، اندلعت أعمال عنف مريعة. وتقول الحاجة هندومة بطريقتها: "رفض الصهاينة تقسيم البلاد إلى دولتين، وعندها بدأت المجازر. كانت المجزرة الأولى في دير ياسين وقتل فيها الصهاينة أكثر من مائة شخص. لقد كانت أوقاتًا عصيبة. قتل الصهاينة النساء والأطفال، الكبار والصغار. كنا مروعين، فالصهاينة يقطّعون أعناق النساء". التزمت هندومة وعائلتها، مع ابنها البكر إبراهيم ذو الثمانية عشر شهرًا، المنزل في انتظار ما سيحل بهم. تحدثت الحاجة هندومة عن وصول الجيشين المصري والأردني إلى الأراضي الفلسطينية وعن دحرهما للمسلحين اليهود وصولا إلى سدود (أشدود). وتحدثت عن طلب الجيشين من القرويين الفلسطينيين مغادرة بيوتهم مؤكدين أنهم سيعودون في غضون أسبوع. وأضافت الحاجة هندومة: "رفضنا أن نخرج من القرية. لقد كان موسم الحصاد وكنا انتهينا للتو من تخزين محصول القمح. لقد ظننا أننا في مأمن بسبب قرب الجيشين المصري والأردني من قريتنا". دخل مسلحو "الهاغانا" إلى قرية بيت عفا في صيف 1948: "وصلت العصابات إلى القرية عند الواحدة صباحًا. وبدأوا في تقتيل الناس. لقد رأيت ابن عم زوجي يقتل أمام عيني فقد ضربه أفراد عصابات الهاغانا ببلطة في رأسه فأردوه قتيلا. اختبأنا في بيوتنا، واستمر التقتيل حتى السابعة صباحًا. بعد ذلك بدأت العصابات في تكسير أبواب منازلنا وطلبوا منا أن نخرج جميعًا. ثم قاموا بفصل النساء والأطفال عن الرجال. أخذوا الرجال وربطوا أيديهم وعصبوا أعينهم وأجلسوهم في الشمس المحرقة". لقد أنقذت أرواح القرويين عندما وصل الجيش المصري الذي كان يتمركز على مقربة من القرية في مدينة المجدل (أشكلون) وطرد مسلحي "الهاغانا". قالت الحاجة هندومة: "عندها كان علينا أن نرحل عن القرية فقد تملكنا الخوف على أرواحنا وعلى شرف بناتنا. الأرض لن تضيع فهي باقية تنتظرنا. رحلنا ولم نحمل أي أمتعة معنا، بل أننا تركنا أبواب بيوتنا مفتوحة"، وهكذا رحل أهل بيت عفا في مجموعات.
رحلت الحاجة هندومة وزوجها مطلق وابنها إبراهيم مع العديد من أهل القرية في رحلة هجرة دامت على مدار ستة أشهر. كانت الحاجة هندومة تتذكر بسهولة أسماء القرى التي وطأتها أثناء رحلة التهجير والتي أقامت فيها مع أسرتها لمدة شهر أو شهرين قبل الانتقال إلى وجهة أو قرية أخرى. أردفت الحاجة هندومة: "رحلنا إلى كراتيا، ثم إلى الفلوجة (كريات غات). ثم رحلنا إلى هربيا وبقينا نتنقل. كان القرويون من القرى المختلفة يلتقون في طريق الهجرة ويشكلون جماعات كبيرة. كانت تصلنا بعض الأخبار من بيت عفا وعلمنا أنها بقيت تحت سيطرة الجيش المصري لمدة ستة شهور إلى أن احتلها اليهود". ووفقًا للمؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي فإنه: "لا يوجد الآن أية آثار لمنازل القرويين، فقط أشجار الجميز والخروب والصبر هي ما تدل على معالم بيت عفا". ولا زالت الحاجة هندومة، كآلاف الفلسطينيين، تحمل مفتاح بيتها في بيت عفا.عندما وصلت الحاجة هندومة مع زوجها مطلق وابنها إبراهيم في شهر ديسمبر-كانون الأول من العام 1948، كانوا لا يشكلون سوى 3 أشخاص من حوالي 914,000 فلسطيني هجروا من ديارهم قسرًا أثناء النكبة. وصل نحو مائتي ألف لاجئ فلسطيني إلى قطاع غزة ليغلبوا على السكان المحليين في القطاع الذين لم يتجاوزا 80,000 نسمة. "مكثنا في مدينة غزة في الأسبوع الأول، ثم انتقلنا إلى النصيرات في وسط قطاع غزة وأقمنا هناك. لم نكن نملك أي شيء. كانت الأرض فراشنا وكانت السماء تلتحفنا حتى وصلت وكالة الغوث وأعطتنا الخيام"، هذا ما قالته الحاجة هندومة في حديثها عن وصولهم إلى غزة. بدأت وكالة الغوث في عد اللاجئين في قطاع غزة وبدأت في توزيع الخيام على حسب حجم العائلات. أقامت الحاجة هندومة مع عائلتها في خيمة واستلموا الأغطية من وكالة الغوث، ولكنهم لم يستلموا أية فراش. قالت الحاجة هندومة والدموع تخنق صوتها: "إن الشيء الذي كنا نحتاج إليه في المقام الأول هو الدواء. لم يكن هناك دواء. لقد مات ابني إبراهيم أمام ناظري بسبب الحصبة ولم أستطع أن أفعل له شيئا". لقد مات إبراهيم في النصيرات وعمره قرابة العامين. توزع اللاجئون الفلسطينيون شيئًا فشيئًا على مخيمات قطاع غزة الثمانية التي تعتبر أكثر المناطق من حيث كثافة السكان في العالم. تركت الحاجة هندومة الخيمة وانتقلت مع زوجها مطلق إلى بيت صغير في مخيم البريج حيث تسكن منذ العام 1953. "كانت السنوات الأولى صعبة جدا. فبعد موت ابني الأول، أنجبت طفلا اخر وأسميته إبراهيم ايضا ولكنه توفي بعد خمس وأربعين يوما. لو كنت اعلم حجم المعاناة التي سيلقاها أولادي لما رحلت من قريتي أبدا" وبدأت الحاجة هندومة تبكي بصمت محرق، فلقد تذكرت أصعب أحداث حياتها وأكثرها مرارة، وتذكرت ألم فراق أرضها وكفاحها للإبقاء على أطفالها.
لقد أنجبت الحاجة هندومة ابنها الثالث "جبر" وأنجبت ثلاثة أولاد آخرين وأربع بنات. كانت أم جبر، كما عرفها قطاع غزة لسنوات، ناشطة سياسية قوية على مدار أكثر من خمسة عقود. إنها تعبر عن امتنانها لوكالة الغوث للمساعدات التي قدمتها، ولكنها تنتقد بشدة الوكالة وبريطانيا على دورهما في النكبة. "نحن الفلسطينيون لسنا إرهابيين. نحن نعيش تحت الاحتلال والحصار الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي. سنظل نقاوم حتى نعود إلى بيوتنا. نحن شعب صابر". في العام 1995، عندما كانت أم جبر في الخامسة والستين من عمرها، بدأت حملة سياسية كبيرة لدعم السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. "لقد سجن أبنائي الأربعة جميعهم. ومن خلالهم، تعرفت إلى سجناء فلسطينيين وعرب آخرين هم بحاجة إلى الدعم. كنت أذهب إلى السجون الإسرائيلية يوميا لزيارة السجناء". لقد حرمت أمهات الأسرى الفلسطينيين من حق زيارة أبنائهن الأسرى في السجون الإسرائيلية منذ يونيو-حزيران 2007، ولا زالت أم جبر تشارك في الاعتصام الأسبوعي الذي تنظمه أمهات الأسرى الفلسطينيين يوم الاثنين من كل أسبوع للمطالبة بحق الأمهات الفلسطينيات في زيارة أزوجهن، وأبنائهن، وبناتهن في السجون الإسرائيلية. وتقضي أم جبر هذه الأيام معظم وقتها في حديقتها الكبيرة ترعى زهورها وأعشابها والدجاج والحمام. "لم أفقد يوما حبي الكبير للأرض. لقد أرضعت هذا الحب لأولادي ولأحفادي. وأنا أمارس حياتي القروية هنا قدرما أمكن لي ذلك". وبينما تتذكر النكبة، تقول أم جبر أنها لم تفقد الأمل يوما في العودة إلى قريتها. "يوم النكبة هو يوم حزين وصعب. سوف أتذكر قريتي وحياتنا هناك. سأتذكر أيضا الاحترام المتبادل الذي كان بيننا وبين جيراننا اليهود. نحن لسنا المشكلة، فنحن شعب تحت الاحتلال. إن المشكلة تكمن في الاحتلال الإسرائيلي لأرضنا".