خاطرة

بعد فوات الأوان!!! نديم إبريق

18:27 29/05 |
حمَل تطبيق كل العرب

كان يُشاطرني الغرفة في المستشفى حين انتابتني وعكة صحية . رجلٌ يبدو عليه بأنه تجاوز الخامسة والستين من عمره . قضينا سوية أسبوعاً في تلك الغرفة المقيتة ، التي فرضها عليّ وعليه المرض . لاحظتُ خلال هذا الأسبوع قلة عائديه ، أو بالأحرى عدمهم ، فقد ترددتْ على  عيادته امرأة واحدة فقط ، تجاوزت الأربعين ، تكهنتُ بأنها زوجته الثانية ولم أُخطئ في حَدسي...ذات ليلة ، وبعدما أبى النوم مصاحبتي ورفضت عيناي بشدة أوامر الإغلاق ، التفتُ إليه محاولاً جذبه لأطراف الحديث :- عم أبو جمال ، عُذراً على التطفل والسُؤال ، ولكن ألا يوجد عندك أولاد ...!؟تنهّد أبو جمال طويلاً وانهمرت دمعة صامتة-حارقة على خدّه ، احمّر وجهه فخفتُ أن يصيبه مكروه فأحاسبُ نفسي حتى آخر يومٍ في عمري..._ آسف ، عم أبو جمال ، أنا لم أقصد بسؤالي أل..._ لا تتأسف يا بُني ، فسؤالك لم يزعجني ، لأن النَزيف في داخلي قوي وليس بحاجة إلى من يحركهُ ... سأقص عليك بإيجاز  قصتي وعندها ستزول علامات الاستفهام :تزوجتُ من امرأتي الأولى قبل حوالي أربعين عاماً . كانت مثال المرأة الفاضلة الصالحة . لا أذكرُ بأنها أغضبتني يوماً ،  أحاطتني برعايتها واهتمامها ، فكانت نِعم الزوجة ونِعم الرفيق.أنجبت لي زوجتي ثلاثة أولاد واهتمت بتربيتهم وتهذيبهم وتعليمهم ، لأن العمل أخذ القسط الأوفر من وقتي في ذلك الحين . ولكن قبل عامين لبّت زوجتي نداء ربها . تأثرتُ جداً على فراقِها ، بكيتُ وانفعلتُ ، فقد كانت بالنسبة لي الزوجة والأخت والأم والصديق... ولكن لا اعتراض على حُكم الله سبحانه وتعالى ، فنحن أمانات  وله الحق باسترداد الأمانة متى شاء. عشتُ سنتين بعد وفاة زوجتي ولم أفكر بالزواج إطلاقاً، ولكن الوحدة يا بُني بدأت تقتلني يوماً بعد يوم ، فالأولاد ينْصّب جلّ اهتمامهم بزوجاتهم وبنيهم وأعمالهم. كانوا يحضرون لزيارات خاطفة ، فأبقى معظم الوقت أحادثُ نفسي وذكرياتي ، فلا جليس يؤنس وحدتي ولا سمير يُحادثني ... داهمني المرض واشتد عليّ ،  فزادت حاجتي إلى من يرعاني عن قربٍ . زارني أحد الأصدقاء وما أن شاهد عن كثبٍ أحوالي حتى نصحني بالزواج ، لكي لا أكون فريسة للوحدة وللمرض. علِمَ أولادي بذلك فثارت ثائرتهم وتعالت الأصوات المنددة بهذه الخطوة ، التي معناها في نظرهم نسيان معروف أمهم ونكران صنيعها . ادّعوا بأن زواجي في هذا العمر سيفقدني الاحترام بين الناس  في القرية.باختصار ، أرادوا بأن ألبس الكفن وأنا حي وانتظر أجلي المحتوم . ولكن معارضتهم هذه لم تُثنني عن عزمي على الزواج ، فقد جمعتهم ذات ليلة وأخبرتهم بأنني عاقد العزم على الزواج  من عزباء من القرية المجاورة ، تبلغ من العمر خمسة وأربعين عاماً. خلال تلك الجلسة حاولت أن أطمئنهم ، فأنا أدري بما تختلجه نفوسهم من الشكوك وأعلم بهواجسهم وأدرك بأن حُب المال ديدنهم ، فأخبرتهم بأن زواجي هذا لن يؤثر على ما سيحصل عليه كل واحد منهم من ميراث ورزق وأموال ...وفعلاً ، تزوجتُ يا بُني من تلك  العزباء  ، التي هي الآن زوجتي الثانية والتي تمكث كما ترى معظم الوقت إلى جانبي في المستشفى . أحمد الله بأنها كالأولى امرأة  فاضلة ، صالحة ،  ترعاني وتؤانسني في وحدتي وتهتم جداً بصحتي... ولكن بسبب مقاطعة الأولاد لي منذ زواجي سكنَ الألم في جوارحي ومكثَ الحزن في صدري فاشتد المرض عليّ وأُدخلتُ المستشفى قبل أسبوع ، وكما ترى لم يأتِ أحدٌ من أولادي لزيارتي...- وهل يعلم أولادك أنك في المستشفى ؟- نعم، يعلمون ولكن...سكت أبو جمال ، فقد اختنقت الكلمات في حنجرته . قررتُ حينها أن أضع حدّاً لهذه المحادثة خوفاً عليه وعلى نفسي...غداة اليوم اشتدّ  المرض جداً على أبي جمال . كان المسكين يئن أنيناً يقطّع القلوب . جلستْ زوجته طيلة الوقت بجنبه ولم تُفارقه ولو للحظة واحدة ، محاولة التخفيف والمواساة ...فجأة سمعته يحادث زوجته بكلماتٍ تخرجُ بشق الأنفس:- نجاة ، قولي للأولاد بأنني مسامحهم من قلبي على كل ما فعلوا...- لا تُرهق نفسك بالحديث يا أبا جمال ، المهم الآن صحتك وسترجع معافى  إلى البيت بإذن الله...    - أشعر يا نجاة بأن ساعة الفُراق قد حلّتْ ... نجاة...سلّمي على الأو...ولم يستطع أبو جمال أن يُكمل جملته ، فقد لفظَ أنفاسهُ الأخيرة. استدعت نجاة الأطباء بسرعة ، ولكن لم يبق َ أمام هؤلاء إلا أن يُقدّموا لها العزاء . أجهشت في البُكاء قائلة بصوت ٍأبح:- الله يرحمك يا أبا جمال  ويجعل مأواك الجنة ويُسامح أولادك!!!بادرت نجاة بالخروج من غرفة المستشفى ، وما كادت تخطو بضع خطوات ، وإذ بهم يتراكضون ... رفعت رأسها، موجهة نحوهم  نظرات عتاب عبر عينين متجمرتين ، وقالت من فمٍ مُبلّل بالدموع :- حضرتم !؟- ماذا حدث ؟ لماذا تبكي ؟ ما بك ؟ ماذا حدث لأبينا؟- أبوكم ؟ الآن فقط تذكرتم بأنه أبوكم ؟ لقد تأخرتم جداً على "أبيكم"! حضرتم ولكم بعد فوات ألأوان ! وقبل أن أفارقكم وإلى الأبد أيها "الأبناء " أريد أن أقول لكم بأن أباكم يسامحكم من قلبه على ما فعلتم . فقط ادعوا الله سبحانه وتعالى – لعلّه يغفر لكم ...دخل الأولاد إلى غرفة أبيهم ، أمّا نجاة فعادت إلى قريتها تحمل ذكريات أجمل سنتين في عمرها ...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربة المستخدم. هل تسمح؟

عنوان: اختبار طريقة اختبار الشارع P.O. 60009 دولور / ألاسكا

الخامس +1 234 56 78

فاكس: +1 876 54 32

البريد الإلكتروني: amp@mobius.studio