الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 23 / نوفمبر 14:01

قراءة في "هوت ماروك"، للرّوائي المغربي ياسين عدنان/ رأي: رجاء بكريّة

رجاء بكريّة
نُشر: 18/07/20 09:50,  حُتلن: 09:52

".. اللّغة الكاريكاتوريّة الفكاهيّة الّتي توفّرها ظلال الشّخوص الحيوانيّة تخرجُ بفيض سرديّ يقاتلُ لأجل استبقائك لكن بجند سريّين يقيمون منذ تبدأ الأصوات استعراضاتها خلف أذنك مباشرة، حريصة عليك، تهجم بكَ على كلّ شيء دفعة واحدة، كلّ الموضوعات معا، السّياسة شأن المجتمع، شأن العشقِ والصّداقة والخيانة، والجنس والسّخرية المُرّة، لدى الرّجل والمرأة على حدّ سواء. يشدّك الخيط ويسحبك دون أن تملك طاقة للمقاومة.. "

التباس فكريّ
في منظومة الأدب مترامية التّجارب ثمّة خليط عجيب من صور الكتابة، أشكالها وأدبائِها. منهم من يطمح لإنجاز رواية، أيّ رواية تترك بصمةً في سجلِّ الأدب، ولو اعتمدت نموذج القصّة القصيرة المطوّلة وهو ما نطلق عليه نوفيللاّ. وثمّة من يجتهدون لكنّ أدواتهم تتوقّفُ عند رواية متواضعة الطّولِ والعرضِ، السّطح والعُمق، ومُتعة الذّائقة. والنّوع الأخير من الرّوائيّين يكتبون وفي نيّتهم أن يفُجّوا جَمرَ المِشحَرة، الّذي اعتاد سواهم أن يصوِّروا اشتعالَ فَحمِهِا، من بعيد، دون إصاباتٍ في العُنُق وتورّماتٍ في العينين. هؤلاء اعتادوا أن ينلسِعوا بشررِ الجمرِ وتنشوي ألسنتهم بمذاقِ حبّات البطاطا المدفونةِ في عُمقِهِا، ولو كلّفهم الأمر إصابة بليغة في أطراف الأصابع ومرافِقِ اليدين. وكي تتواصلَ مع المذاق السّحريّ لحبّاتِ البطاطا عليكَ أن تُحرّكَ الجمرَ وتفُجَّ أكوام الرّماد بيديكَ أو مرفقيك، ولهذه المهمّة أًناسُها وكُتّابًها، أعدّتهم الطّبيعة لذلك، ودون واسطة. أمثالُ هؤلاء يكتبون بأقلام لا يراها غيرهم، يجوز معها الحبر السريّ شبيه الرّصاص، هم من يقلب معادلة الكتابة التّقليديّة بمُجمَلِها. وهؤلاء لا يفكّرون بالمُقابل الّذي ستجنيهِ رواياتهم، لكنّهم نعم يفكِّرون بأثرِ الضجّة الّتي سيسمعون صداها بكلِّ جهاتِ الحدث وأفعالِ الشّخوصِ، وبطلهم لن تصلَ إليهِ بسهولة لكنّهُ يحرصُ منذ البداية أن يمدَّ لكَ حبل نجاةٍ إليه أو بعيدا عنه. لهذهِ الفئة الأخيرة أعزو رواية "هوت ماروك" لكاتبها ياسين عدنان. ولو أنّي لا أنجز هذا النّوع من المقالات لكنّ الثّيمة الّتي تشتغل عليها هذه الرّواية سحبتني إليها على نحو يثير التّساؤل والنّبش، فلم يحدث أن كتبتُ مقالة تتعامل مع هذا الصّنف النّادر من الرّوايات، وعنها تحديدا كموطئ فكري جديد لتيّارات الوعي واللّاوعي في السّرد الرّوائي العربي الحداثيّ.

رواية مارقة في جُموعِ ضجيج
هكذا يحدث مع بعض الرّوايات أنّكما لا تقعانِ في رغبة التّواصل الواحدِ مع الآخر لأسباب لا تفهمُها أنت نفسك. تضعها على رفِّ قلبِكَ أو روحِكَ أو مكتبِكَ وتتأمّلها مليّا وأنت تعضّ على نواجدِكَ، أو تعبث بخصلاتِ شعرِكَ وتتساءل كأنّكَ تُجرِّبُ حظَّكَ مع زهرةِ الصّفير الشّهيرة، أهوَ دورُها أم أنّهُ لم يحن بعد؟ أو كأنّكَ تَجُسُّ نبض، يحبُّني| لا يحبّني بمنتهى السّذاجة واختبارِ حدّةِ مللِكَ من المعلوكِ والمُعاد من الحكايا والرّوايات والكلمات. ودائما أتساءل لماذا أميل للأدبِ المترجم للغات غير لغتي، بل وطوّرتُ حاسّة شمّ حادّة في جودة التّرجمة ومستوياتها. لكنَّ ما حدث لي مع "هوت ماروك" يشبه الخيال.
كانت زيارتي الثّانية لراماللّه سنة 016 كضيفة غريبة على معرض فلسطين الدّولي للكتاب هي أوّل التّعارف المُلتَبِس. في طريقي للجناح المغربي صادفتُ راسم الرّواية، " ياسين عدنان". لم أعرفهُ طبعا، لكنّ صديقة لي، فاطِمة نزّال اسمها، عرفتهُ. سلّمت عليهِ بحرارة وابتسمت، أنا تابعتُ المشهد عن بُعد لهنيهة ثمّ سألتها بدهشة بالغة، "من هذا؟". همست بدهشة مماثلة، "ألا تعرفين ياسين عدنان؟" أعدتُ حاجبيّ إلى فَوق، "لم يحصل لي الشّرف" صمتّ وأنا أتجوّل معها بين الكتب وسألت بشيء من الضّيق، "لماذا لا يرى هذا الرّجل أحدا؟ لمَ يمشي كأنّهُ مغمغم؟" يجوز أنّ الشّاعرة الجميلة لا تتذكّر لكنّي أتذكّر جيّدا أنّهم حين نصحوني بروايتهِ لم أتحمّس. همستُ لنفسي، "هذا هو الرّجل الّذي لم يرَ غير خطواتِهِ إذاً، وطِلِع روائي!" كانت الرّواية ثقيلة وزنا، وأعني نسخة (دار الفنَك) فكّرتُ كيف سأسحبها معي إلى الفندق هي وأخواتها، لكنّ أناقة طباعتها غفرت لها. أخذتها راضية مرضيّة سعيدة رغم شكوكي بمكسبي الرّوحيّ. سحبتها وأنا أتأمّل لوحة الغلاف العجيبة. لم نستظرف بعضنا بأيّ حال. حدّثتُ صديقا بأمر الرّواية الّتي سحبتُها في كلّ مرّة من رزمة الكتب وسألتهُ عن رأيهِ بها، فأشاد بالكاتب. هذه المرّة رفعتُ حاجبا مذعورا، "..تشيدون بها، وصاحبها لا يرى أحدا. يمشي بخطّ مستقيم، وعيونه تصطدم بالجدران، على العموم سنرى"
استراحت الرّواية عدد أيّام قبل أن أسحبها وأقرّر أن أشرع بقراءتها؟ اصطدمتُ أوّلا بالفأر والجرذ ثمّ السّرعوف والبقرة والقنفذة. ذهلت! لماذا يمسح هذا الرّجل جميع البشر ويحقّر من حضور المرأة هكذا؟ كلّ الأنوثة الّتي لها، ولا تساوي أكثر من بقرة! ذبيحة تنتظر الشّي. انطباعي الأوّل كان كاسرا، أنا المعروفة بتوجّهاتي الفمنستيّة أو هكذا يخيّل إلي! أعدتها إلى مكانها الصّحيح بين أخواتها الواقفات بالدّور وسط مشاعر غريبة، ونيّة ألّا أعود إليها. ولأنّ رفّ الإنتظار خلفي مباشرة رأيتها في كلّ شيء يلمع أمامي، لذا دفشتها إلى الخلف، أقصى الدّور. أحدنا ربّما يجب أن ينضج. سأنجو من تحريض الفكر كلّما أطلّ أحدنا برأسه في مواجهة الآخر. انغمرتُ بترجمات مزدوجة بين الإنجليزيّة والعبريّة. قرأت أكثر من كتاب في وقت واحد لأنجو من تداعيات الرّائحة المتخيّلة للفئران الّتي تخيّلتها حتما تعيش في مطبخي. حين أتأخّر في العمل حتّى ساعات الفجر الأولى أحتار في مصدر الأصوات الّتي تصدر منه. خفتُ من الهذيان للحظة وفقدان توازني، ومهما فعلت لم أخرج من هذه الورطة بسهولة. كان الحلّ أن أنغمر بعملي أكثر وأسدّ أذنيّ بدقّات قلبي. هكذا نبقي على تواصل مع القطيعة.
اختفت الرّواية أربع سنوات على الأقلّ حتّى جمعتني الصّدفة براويها في برنامج لافت على شاشة الغد المصريّة، هو "بيت ياسين" كان الغمر الرّوحي للحوار الّذي جرى بين ياسين عدنان وضيفهِ بنكهة السّحر لمن اختبروا هذه الزّوايا في عوالمهم الشّخصيّة خصوصا. همستُ لنفسي، "مغربي، وطليق اللّسان ويبتسم أثناء الحوار، كأنّهُ يسبحُ فوق غيم، ويكرجُ فوق كرات ثلج" بدأتُ أفتّشُ عنهُ من جديد، أجري تحقيقا يشبه دهشتي. عثرتُ على كتابِهِ المحتجَز في قائمة الممنوعات لديّ آخر الطّابور يقف صامدا، لكن مغبرّا جداّ، وكان ضمن أهمّ ما كَتَب! كانت مهمّة قلب الرّفوف شاقّة، لكن منعشة. تأمّلتُ وجه الجرذِ من جديد بقشعريرة لكن برغبة وبدأتُ حرث الماء..

ظلال الوجوه الحيوانيّة
أن تشتمّ رائحة الجرذان الّتي تعيش دون استئذان في مطبخكَ بين أوراق رواية حالة لا يمكن تذويتها بسهولة القراءة أو صعوبة الإنقطاع عنها، فكيف وأنت تتحدّث عن 460 ص سيرافقك هذا المخلوق القارض بطولِها وعرضِها وعُمقِها؟ والغريب في لونِ السّرد الّذي اختاره عدنان أنّه ليس مألوفا، كأنّه تَسَحّبَ دخيلا على لغةِ الرّواية الّتي نعرفها وصار بفعل بروتوكولات الضّيافة أحد أفرادها، وبرغمِ صفتِهِ اللّصوصيّة تلك أجاد مهمّة استدراجك إلى حيثيّاتها بحرص وتدارك شديدين. سردٌ ذكيّ يجيد حرفة التمسّك بالقارئ، بقوّة البصيرة حتّى النّهاية، وهي المرّة العنيفة النّاعمة الأولى الّتي أقابلها في رواية، وعربيّة. والاستدراجُ هنا استراتيجيّة فنيّة على طول الخطّ الدّرامي المتقافز للرّواية، وأسلوب تشكيل وجوهها الحيوانيّة. فالحيوان الّذي لا تستلطفهُ، تستشعرُ صفعَتَهُ أوّل تعرّفكَ إليه بذنَبهِ أو ملمسِهِ، وأعني الفأرِ أو الجِرذِ ستجدُ نفسكَ لا شعوريّا متورّطا بالبحثِ عن وجههِ إذا غاب. بحُمقِ أو بذكاء، لا يهمّ، "شَريَة" ستمشي في بدنِك يدخلُ معها ملمس الحيوان وشكلهُ إلى نظام جسدك ويصير بعضه، كحالةِ حبٍّ سريعة، وغير مأمونة العواقب. تمدُّ خيطَ نجاتِها في حلقكَ، عينِك، أو قلبك. يعرفُ كيف يحرّكها كمسرحي العرائس الشّهيرة برشاقة حركاتها المتمرّسة. يهبطُ بها من الهواء حتّى القاع، وبفنيّة بالغة الدّقة يرفعها ويطيّرها إلى حيث تختفي ولا يراها أحد. هكذا، وبمثل هذه السّلاسة ينشئ علاقات شخوصهِ الحيوانيّة بقرّائهِ. وعليهِ أكاد أجزم أنّ كلّ من يدخل مملكة هذا القفص مع ظلال الحيوانات الكثيرة لن يفكّر بالخروجِ منها، لقد وقع في شركِ المصيدة النّاعمة كي يفهم لغة فرائسها الكثر، بألوانهم وطبائعهم وجلودهم وأشكالهم والأهم روائحهم، فلكلّ فروة رائحة تختلف وعليك أن تعتاد على التقاطِ رائحتها بمجرّد أن تقتحم المسرح وتستكمل حوارها المقطوع من مكان ما في لحظة ما حول موضوع ما لا زلتَ ضائعا خلفهُ. بهذه السّلاسة يستحيل سيرك الحيوانات البشريّ المتحرّك لجزء من مسار سرديّ ماتع. يأخذ ابتسامتك، وغضبك، وتأمّلك، وحلُمِك، وللتذّكير فقط، ليس مفروغا منه أن يحدث كلّ ذلك بالسّهولة الّتي يتخيّلها القارئ، لولا أنّ السّارد، الرّاوي، مشرف كلّي على الجبهة المركزيّة للمعارك الدّائرة في رحى هذه الرّواية. فالمعلّق الكلّي يمسك بكلّ خيوط العرائس وعلى دراية بكلّ صغيرة وكبيرة ولو تمرّدت عليهِ، خانته أو استغفَلتَهُ. فكلّ ما يحدث في منظومة السّرد وتشمل لغة العرائس يعرفها، ولو ضلّت يعيدها إلى مسرحِهِ بفنيّة الاستدراج ذاتها. والرّاوي فنّان متمرّس في شدّ الخيوطِ وتحريرها، ويتقن مهنة امتلاكِ روحك ومزاجيّة فكرك. كأنّك تعثر على كلّ المزاجات داخل قفص واسع يشبه عالما بالغ الرّحابة والخصوصيّة.
اللّغة الكاريكاتوريّة الفكاهيّة الّتي توفّرها ظلال الشّخوص الحيوانيّة تخرجُ بفيض سرديّ يقاتلُ لأجل استبقائك لكن بجند سريّين يقيمون منذ تبدأ الأصوات استعراضاتها خلف أذنك مباشرة، حريصة عليك، تهجم بكَ على كلّ شيء دفعة واحدة، كلّ الموضوعات معا، السّياسة شأن المجتمع، شأن العشقِ والصّداقة والخيانة، والجنس والسّخرية المُرّة، لدى الرّجل والمرأة على حدّ سواء. يشدّك الخيط ويسحبك دون أن تملك طاقة للمقاومة. تذهب مع حركة الجزر والمدّ مستسلما كأنّك تمنح أقداركَ لقوّة لا سبيل لدفعها. فهل ما يحدث في هذه الرّواية برمجةٌ نادرة ومخطّط لها عبر تقنيّتها السّرديّة المفاجئة لدى ياسين عدنان، أم أنّها صدفة الامتلاء بالأحداث حدّ التّخمة سرّعت تفريغها الزّخِم عبر شحنات تناسبُ تموّجاتها العميقة في الجسد. ثورة عارمة تضرب وتطيح بكلّ شيء وبك، أنت الغارق بغرائبيّات ما يحدث.
لكنّ اللّافت أنّ السيرك الحيواني الّذي سيكون سببا في طرد أسراب القرّاء بمجرّد أن يقتربوا من الرّواية سيكون سرّا بالغ الخصوصيّة في جذب ذات القرّاء الهاربين إلى أقفاصها ومطابخها. عالم من الثّراء الفكري والفنّي يستتر بعد العتبات الأولى لرائحة تلك القوارض الّتي ستهجم فراؤُها الملوّنة عليك ودون أن تكترث لنسبة استلطافك لها أو نفورها منك.

السّياسة حين توقِع بغرمائها
السّخرية اللّاذعة، والفكاهة تشكّلان لغة السّرد الأشهى لدى راويها في مرحلة سياسيّة واجتماعيّة حسّاسة من تاريخ المغرب. العُشريّة الأخيرة من حكم الحسن الثّاني والأولى من حكم محمّد السّادس 2009، وما تخلّلها من تخبّطات داخل الحرم الجامعي ثمّ الشّارع والأسواق والحياة برمّتها. يأخذنا إليها الرّواي بزخم اقتتالاتها وفداحة تجاوزاتها في كثير من المواقع. ثمّ يستغلّ الزّحف الجديد لعالم الإنترنت ممثّلا بقاعة السيبر كي يحرّك عوالم الشّخوص بتداخلاتها، وأسرارها، حدّ أنّه يخيّل إليك أنّ المغرب كلّهً بسخونة وجوههِ يَعيشُ في هذا الجحر الإلكتروني الغريب. وأنت تتساءل للحظة، كيف لم يمنعوا الرّواية حين صدورها، أو يقدَّم صاحبها للمساءلة؟ ذلك لأنّها رواية فضائحيّة من الدّرجة الأولى بعينيّ. رائحة القاعات الجامعيّة تُغبِّرُ أمزجةَ القارئ وتلفُّ به العالم من خلالِ ذلك الجحر الإلكتروني المسمّى سيبر حيث تَدورُ أخطرَ عمليّات الجاسوسيّة على مستوى دولة كاملة، في مركز مرّاكش الحمراء. تأخذنا من رائحة الفئران والمطابخ والجرذان الّتي تعشّش لجانب أخواتها القوارض الأخرى إلى الإصطدامات الفكريّة والتّطاحنات المذهبيّة، التّناحرات، التّظاهرات، الغيرة والحقد، الخبث والقهر. النّفور والوحدة حين يتعلّق الأمر بالنّضال السّياسي ضدّ قوانين جائرة أو قضيّة سياسيّة كفلسطين زمن الحرب على غزّة. كلّها خضمّ واحد يسحبك إلى كلّ مكان. قارّة تمشي مسلّحة بك وبقرنائك القرّاء ببطء في اتّجاهات تواجهُها ربّما للمرّة الأولى دون أن تملك حقّ العزوف عنها، كأنّها المغناطيس يحدّد الموقع السّالب في بدنك ويَجذبك إليه.

29 يونيو، 020 ، حيفا
 

مقالات متعلقة